يرى أمبرتو إيكو أن النص آلة كسولة تستدعي قارئًا ينخرط في ملء بياضاته، ذلك القارئ النموذجي الذي يكشف النص ويتغلغل في ثناياه. من هنا كان هذا التعليق الرائع على نصي القصصي الذي نشرته أمس، “الصفعة”، من الأستاذة فاطمة الداودي، الذي أبهجني غاية الإبهاج. شكرًا للأستاذة فاطمة العداوي على هذه القراءة العميقة والجميلة جدًا.
القاص عبد الهادي الفحيلي
فاطمة العداوي
“الصفعة” ليست مجرد فعل جسدي، بل تمتد دلالتها في النص لتصبح رمزًا للقهر المجتمعي والسلطة القمعية. إنها تتجاوز الحدث الفردي لتشير إلى تجربة إنسانية وجمعية، مما يضفي على العنوان بُعدًا فلسفيًا وسياسيًا.
الكلمة نفسها تحمل إيقاعًا قويًا، فالصوت الناتج عن نطقها يشبه صوت الفعل الذي تصفه. هذا التناسق بين الكلمة ودلالتها الحسية يعمّق الأثر النفسي ويخلق رابطًا صوتيًا بصريًا بين العنوان والنص.
التركيز على “الصفعة” كعنوان قد يوحي بأن النص يدور فقط حول لحظة عنف محددة، في حين أن النص أوسع في دلالاته. فالنار، القهر، والسياق الاجتماعي كلها محاور أساسية يمكن أن يكون لها حضور أقوى في العنوان.
“الصفعة” تحيل إلى فعل عدواني، لكنها لا تُظهر مأساة المرأة، صراعها مع السلطة، أو المعاناة الجمعية للزقاق.
النص “الصفعة” هو لوحة من الألم تُرسم على وجه الزقاق. كل صفعة فيه موجة ترتد لتصيب الجدران والخدود والقلوب. إنها ليست مجرد فعل عابر، بل هي انبثاق رمزي لقهر يتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، حيث يتجلى “المخزن”، لا كسلطة حاكمة، بل كوحش صامت ينهش الروح دون أن يلتفت.
الصفعة الأولى تأتي كشرارة، تشعل نارًا لا تُرى إلا بأعين تعيش على حافة القلق والخوف. “بعيني سمعت الصفعة”، يقول الراوي، وكأن الإحساس يتعدى الحواس، ليصبح صوت الألم مرئيًا، نبضًا يخترق بالظلم ويجسّد في صورة تحترق بين الكلمات.
الصفعة ليست على وجه الجارة وحدها، بل على جبين الزقاق بأكمله، كأنها طابع أبدي يختم به الوجود.
“المخزن” في النص كيان بلا ملامح، بلا قلب، بلا عاطفة. وجهه “مستطيل” وعيناه “كبيرتان”، جسد مفرغ من الإنسانية، يسير كالقطار، لا يعرف سوى خط “النِّيشان”، حيث لا مجال للالتفات أو التراجع. هو ليس مجرد رمز للسلطة، بل هو التجسيد الحي للقهر المستدام، القوة التي تخترق الزقاق وتسحق كل من يقف أمامها، ليس بقصد الإصلاح، بل بتكرار عقيم يُبقي دائرة الوجع مغلقة.
النار التي تأكل الزقاق ليست سوى انعكاس داخلي للوجدان المشحون بالغضب المكبوت. كل صفعة تترك شرارة، كل يد مرفوعة تصبح مشعلًا، وكل عين تنظر بعجز تضيف وقودًا إلى هذه الحرائق التي لا تنطفئ. النار في النص ليست دمارًا، بل صرخة، وجع يتوهّج في الزوايا المهملة من الحياة.
أما الجارة، فهي بطلة النص الخفية. ليست امرأة تسقط أمام “المخزن” فقط، بل هي رمز للضعف الذي يتحول إلى عار علني. تقعي، تبكي، تستجدي، وكأنها تحمل في انحنائها أوجاع جيل بأكمله.
“المخزن” يدفعها بقدمه، لكنها تقوم لتقعي من جديد، كأن هذا التكرار هو القدر الذي لا فكاك منه. وفي صراخها، في عريها أمام الزقاق، يتجلى مأزق الإنسان المُهمش، الذي يُعاقب حتى في ضعفه.
الزقاق في النص حي، نابض، ليس مكانًا جامدًا بل شاهد على المأساة. يشارك سكانه الألم، يشتعل بنار الظلم، يتحول إلى فضاء مغلق تختنق فيه الأرواح، حيث لا مجال للهروب إلا إلى الداخل، إلى الصمت المطبق. الجدران تشهد، النوافذ ترتجف، والناس، رغم حضورهم، يغيبون في عجزهم، كأنهم مرايا تعكس فيها الصفعات دون أن تتحطم.
عبد الهادي الفحيلي يكتب هنا نصًا يقترب من الشعر. نصًا لا يُقرأ بقدر ما يُحس. لغته تتجاوز المعنى الظاهر لتلامس الأوجاع الخفية. التكرار، الصور الحسية، المزج بين الرؤية والسمع، كل ذلك يُضفي على النص إيقاعًا داخليًا يشبه نبض الجراح.
“الصفعة” ليست مجرد قصة عن “المخزن”، بل هي قصة عن القهر الإنساني في صورته الأكثر بدائية. إنها دعوة للتأمل في علاقة القوة بالضعف، في ذلك الخط الرفيع بين الهيمنة والانكسار. في النهاية، الصفعة لا تنتهي عند حدود الجارة أو الزقاق؛ إنها صفعة على وجه المجتمع كله، صفعة تترك أثرًا لا يُمحى في الذاكرة.
هذا النص يقف كمرآة مشتعلة، يرينا فيها قبح القهر وجمال الألم الذي يصنع شعورًا بالاحتجاج الصامت. ربما، في رماد تلك النار، سنجد يومًا شرارة تشعل وعيًا جديدًا، يكسر دائرة الصمت ويعيد بناء الزقاق على أسس الكرامة.
النص القصصي موضوع الورقة النقدية
الصفعة
بقلم: القاص عبد الهادي الفحيلي
بعيني سمعت الصفعة فتحسست خدي… سمعتها…
بعيني سمعت وجريت إلى الزقاق.. انفجر البرق وسمعت الصفعة مرة أخرى وأخرى ورأيت خدي يشتعل. يقف أبي عند الباب يضع يده على خده… كلهم، الجيران، يقفون عند أبوابهم يضعون أيديهم على خدودهم… عند الصفعة الثالثة اندلعت النار في الزقاق..
سمعت ورأيت…
رأيتها وحدها تقعي عند قدمي سعادة المخزن وتمسك بساقيه تبكي. سمعت ورأيتها والصفعات ما تزال تتركل. النار كل النار في الزقاق… تقعي وتبكي ويدفعها المخازنية. يدفعها المخزن بقدمه فتنكفئ ثم تقوم لتقعي… “المخزن لا يلعب”، قال أبي. بعيني رأيت المخزن لا يلعب، بعيني رأيت المخزن بلباسه العسكري يدفعها. بعيني سمعت الصفعات الثلاث تندلع نارا… قال أبي إن المخزن مثل القطار لا يعرف إلا “نِيشانْ. بعيني رأيت المخزن لا يلتفت، رأيته وكنت دائما أراه… “نيشان” لا يلتفت، وجهه مستطيل وعيناه كبيرتان ويداه تصفعان ورجلاه في حذاء العسكر تضربان.. بعيني رأيت المخزن لا يشبهنا؛ نضحك ولا يضحك. يأتي ونهرب. يتكلم من فوق وننكمش أمامه. يتبعه المخازنية والعصا والصفعات ويتبعنا الذباب. يتبعنا الزقاق، الصراخ… يتبعنا الزلط.
تقعي وتبكي…
في ذلك المساء، قبل أن يأتي المخزن، غطى صراخها الزقاق. تَعُبُّ الشتائم من تحتها وترميها. تخبط باب جارتها. ترفع ثوبها وتنزل سروالها وتركع. تضحك النساء والأطفال. يحوقل الرجال ويبحلقون ويضربون أكفا بأخرى. يجيء المخزن ويصفعها فتقعي.. “المخزن يعرف كل شيء يجري في الزقاق، لم يخبره أحد وجاء بسرعة. يعرف ويرى كل شيء”، قال العساس. بسط جار شفته السفلى وهز رأسه وقال “سبحان الله”.. المخزن رأى مؤخرة جارتنا معلقة في الفضاء فجاء. سمع شتائمها فجاء. صفعها فأقعت. وحدها أقعت والنار تأكل الزقاق والمخزن يدفعها بقدمه وبالمخازنية…
* عبد الهادي الفحيلي: كاتب مغربي من مواليد الدار البيضاء عام 1976. يُعرف بأعماله الأدبية التي تشمل مجموعتين قصصيتين: “شجرة الحكاية” (2009) و”مثل تفاحة مقضومة” 2015. يتميز أسلوبه بالعمق والقدرة على طرح قضايا إنسانية معقدة، حيث تعكس كتاباته تجارب شخصية وأبعاد فلسفية. إلى جانب الكتابة، يشارك الفحيلي في الفعاليات الثقافية والأدبية، ويُعتبر من الأصوات البارزة في الساحة الأدبية المغربية.