حينما قرر جيراندو أن ينفخ فقاعته الجديدة حول عقار المقر الجهوي للإدارة العامة لمراقبة التراب الوطني، لم يكن يبحث عن الحقيقة، ولم يكن يملك حتى خريطة واضحة لما يتحدث عنه.
كان كعادته يهذي، يعيد إنتاج الهلوسة بصياغة ركيكة، ويقذف كلماته كيفما اتفق، وكأنها تعاويذ سحرية يظن أنها قادرة على خلخلة الثوابت...
يا سادة... نحن ننساه.. فتخرجونه من الظل... بمزيد من الاستقصاء المهني، عملية مهنية كثير من القضايا في أمس الحاجة لها...
يا سادة... هو منسي بلا لواء.... ولا أتباع ولا أشياع... من لا قضية له لا بينة له، ومن لا بينة له... لا يحتاج حجة على خطله... ولا يرد عليه... والرد مجد للحمقى...
لولا ملاك.... ما تطرقت شخصيا للقضية... لأن قلمي ينأى بنفسه عن محاججة الأشباح... وعن من يقارعك من وراء شاشة باردة....من بلاد بعيدة.... لا تكلفه الكلمة إلا مزاج الحلقة والنكتة...
ولأن الصدفة كثيرًا ما تمنح الحمقى لحظاتهم العابرة، تلقفت بعض المنابر الإعلامية تفنيدًا رسمياً لما قاله، حتى أن البعض ذهب إلى استخراج وثيقة رسمية لإثبات أن الرجل يبيع الهواء لمن يشتري.
وكأننا أمام "مفكر خطير" لا مجرد مهرج يحاول أن يمنح نفسه دورًا بطوليًا في رواية لا أحد يقرأها..
الواقع أن هذه الردود، مهما كانت نياتها صادقة، وأثق في وطنية أصحابها...لم تفعل سوى أنها منحت فقاعته الهشة جرعة أوكسجين...
جعلت منه "شخصية مهمة"؛ تحتاج إلى الرد... وبالحجة....
قالت زوجتي معلقة على قضية العقار:" هل يظن جريندو البلد سائبة...."
صحح لها ابني الرجاوي غاضبا بحياء" جيراندو يا أمي..."
ولكننا مع ملاك... ملاك... هي قضيتي شخصيا...
معها... حتى تخرج من لعبة هذا الكهان الأخرق...
ليس برؤية حقوقية ولا قانونية... ولا سياسية
بل ببعد رؤية مجتمعية... فبعض القرارات خاسرة... اجتماعيا... ولو معللة قانونيا... بعض القرارات عليها أن تكون حيث المجتمع.... لا حيث تصطف نخبة أثينا مستعدة لتعليل حتى الغروب عند منتصف الظهيرة....
رغم أن طلقة جيراندو كالعادة كانت مجرد نكتة مملة... فالرد عليه بوثيقة رسمية هو بمثابة منح شهادة ميلاد لرجل لم يُولد أصلًا إلا في مخيلته...
جيراندو لا يملك سوى نصف جملة، والبقية ضباب وسجع ممجوج. ومع ذلك، خرج علينا من أراد أن يواجهه بالحجج والوثائق، وكأنه خصم ذو شأن، لا مجرد صانع وهم يمارس دور الكاهن من مصحة عقلية بكندا.
جيراندو... في بيتي... لا أحد يعرفه... أو سمع عنه.. وحكاياته لا تهمهم... لأن المغرب الذي يعيشون فيه وولدوا في أحضانه، ليس هو ذاك الذي يتحدث عنه، فيه القسوة والرحمة معا، فيه الآمال والخيبات، فيه شيء من الألم والأمل،وفيه كثير من الرجال والنساء صدقوا الله والوطن، وما نكثوا القسم... ككل وطن...لكن ليس الوطن الذي يلعنه بالرماد والسواد جيبراندو ومن على ملته.
لكنهم يعرفون ملاك.... وعن طريق ملاك اغتنى جيراندو معنويا... وعزل ملف ملاك عنه، يعزله في زاوية ضيقة أمام الشعب والمجتمع... لا تعطوه فرصة استثمار الوجدان الشعبي....
في بيتي، كما في بيوت المغاربة جميعًا، لا أحد يعرف جيراندو سوى كعابر في مشاهد سريالية، ولا أحد يكترث لما يقول... بل لا أحد يصدقه...
في بيتي زوجة مشغولة بهزم الزمن والعلل، لا وقت لديها لتفاهات رجل يحارب الطواحين الهوائية...
في بيتي ابن ودادي لا يرى في الدنيا قضية أهم من أن يُسمح للجماهير بالعودة إلى الملاعب ...
في بيتي ابن رجاوي يعتصر قلبه شوقًا لعودة الرجاء إلى مجدها الضائع...
لو سألتهم عن جيراندو، لقالوا: "خال ملاك"... نعم هو الرابح في بقاء ملاك تحت الأضواء....
ابني الأصغر لا يصدقه، ولا يجد في قصصه سوى مادة للسخرية. فلماذا يمنحه البعض هذا الوزن الذي لا يليق حتى بالفراغ؟
الرد الذي صنع من الوهم "قضية"... لم تكن أصلا ذات أثر ولا شأن...
الحقيقة أن من هرعوا لنفي مزاعمه لم يكشفوا زيفه بقدر ما خدموه دون قصد. لقد رفعوه إلى مرتبة "فاعل"، رغم أنه لم يكن سوى مجرد تائه يستحق الشفقة، حرفته صناعة الإثارة والأسطورة، يقتات على الخيال والوهم...
كاهن كندا لا يملك قضية، ولا حتى كذبة محترفة... هو فقط يجيد صناعة الضجيج، فيهرول البعض، بحسن نية، لنفيه، فينتشر أكثر، ويعرف أكثر... والمبدأ الأبدي أن السفاهة يرد عليها بالتجاهل واللاكثرات... والخرافة بالحكمة، والحكمة... فيها كثير من التجاهل المعذب.
دعونا نكون صريحين: المغاربة ليسوا بحاجة لمن يدافع عن مؤسساتهم، فهي حصنهم المنيع، وهي منهم ولهم... وقوية برجالها، لأن الشعب هو حاضنتها، وهي نابعة من تاريخ طويل من بناء وتخليق ودمقرطة.
المغاربة بحاجة إلى من يرفع عنهم وطأة الفساد، إلى من يكشف عن السرقات الخفية باسم السياسة، إلى من يفضح كيف تحولت السياسة إلى سوق، وكيف تحوّل الوطن إلى "رأسمال" في يد قلة تبيعه في صفقات خفية.
نحن بحاجة إلى من يسأل عن العقارات التي اختفت في وضح النهار، عن القناطر والجسور التي تهترئ قبل أن تُبنى، عن من وراء موت طفلة بركان، عن سبب كل هذا الهروب للقاصرين سباحة نحو سبتة، عمن وراء اختفاء الأطباء، وموت النساء، وتآكل الآمال...
عن الإسمنت الذي يبتلع الأحياء، ويحول الناس إلى ملفات في مشاريع إعادة الإيواء...عن الذين صادروا حلم المواطن العادي في امتلاك سقف يقيه برد الوطن الذي يحب.
أما جيراندو؟ فليُترك في ظلامه، قضيته لسيت قضيتنا... لأن الأحقاد لا تصنع الأمجاد... ولأن أسهل شيء هو الافتراء وأصعب شيء هو البقاء معنا وبيننا... وتعلمنا من أمثاله أن ضرب الرموز منهجية الجبناء للحصول على امتيازات الخارج والداخل... ففي الداخل هناك ضحايا دائما لأمثالهم، وزبائن يؤدون لمن ينوب عنهم في تصفية الحسابات وتصريف الضغائن والأحقاد.
لا أحد يسمع جيراندو إلا من ألفوا فرجة الافتراء، لا أحد يصدقه، ولو تابعه، ولو كانت لديه ذرة من الصدق، لبدأ بتحرير "ملاك" من استغلاله الرخيص لها، بدل أن يجعل منها ورقة يلوّح بها في معركته الوهمية... بعض القضايا العادلة نخسرها إن حشر فيها أنوفهم الاغبياء وتجار المشاهدات.
لذلك، لا تمنحوا الوهم أكثر مما يستحق... لأن كاهن كندا، ببساطة، لا يستحق... امنحوا ملاك فرصة التحرر من قبضة الشيطان...
امنحوا الوطن أقلاما تواجه الظلام الحقيقي في الفقر والفساد والقهر الاجتماعي...
أما المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية ورموزها.... فهي قلاعنا الحصينة... في مواجهة الفساد... فدعوا جيراندو يحارب الطواحين الهوائية....
فاليوم... نحن مشغلولون بالصحة والتعليم والسكن ومحاربة الفساد... ونعرف أن الوطن مستهدف في قلاعه، لكننا مرتاحون... على الأقل... ضمنا الأمن... الأمن... رأسمالنا المعنوي الذي لن نفرط في رموزه... وليسوا في حاجة إلى كتيبة دفاع... بل إلى كتيبة أقلام تصنع الأمل وتحارب الفساد لتخفف عنهم وعن القضاء كل الاعباء ونتائج الاختلالات الاجتماعية...
معركتنا مع قسوة واقع مر موجع من صناعة الساسة... وتجار الانتخابات...
وخصومنا الحقيقيون نعرفهم... ويعرفوننا... منذ قرروا إعادة ترببتنا... ومنذ تقلبوا في معاش سمين، والبقية ممن أخذوا ما أخذوا باسم خدام الدولة... وكثير من قتلة الأمل .. مستعدون للسفر لبلدهم الثاني... كلما اشتدت الكرب...
فتعالوا إلى كلمة سواء...
كرامة... بلا مزايدة



