تتناسل الأسئلة الحارقة والمشاغبة حد القلق حول أدوار الدولة والمجتمع في بناء الإنسان... وحول وظيفة المجتمع المدني في ترسيخ القيم كمدخل أساس للتماسك المجتمعي والتنمية الآمنة...
تتصاعد بشكل سريع تحديات القيم والانتماء والهويات الفرعية...مما يجعل سؤال التخييم والتنمية والقيم يشاغب... يقلق... يوتر... يخلخل اليقين والتكلس،
لأن سؤال الترف الموسمي يحاصره سؤال الجدوى من كل محطة موسمية تخييمية صيفية، كرهان على التماسك المجتمعي بتربية الناشئة على القيم والتنمية الاجتماعية بالترفيه.
في المغرب، حيث يعبر الشباب عن انتظاراتهم بطرائق متباينة، وحيث تتحول الطفولة في أحيان كثيرة إلى أفق مؤجل، تبرز الجامعة الوطنية للتخييم كمؤسسة مدنية فاعلة طموحة ذات شرعية تنظيمية وتاريخية ، لتجدد مشروعاً يتجاوز بكثير حدود الترفيه، لاسيما في مرحلة محمد اكليوين، حيث تغيرت الرهانات والخطاب التربوي ومنظومة التواصل وشبكة القيم.
ظلَّ التخييم لعقود طويلة محصوراً في ثنائية "التنشيط والترفيه"، التحوّلات البنيوية التي عرفها المجتمع المغربي، وتحولات العالم القيمي في زمن الرقمنة والانفجار المعرفي، فرضت إعادة النظر في هندسة هذا النشاط من حيث المضمون، والغايات، والوسائل.
التخييم، كما يؤكد كثير من الباحثين والممارسين، لم يعد مجرد سياحة تربوية موسمية، بل أصبح مختبراً لبناء المواطن، ومنصة لتصحيح المفاهيم، ومجالاً لتجريب الممكن التربوي، خصوصاً في سياق يعرف خصاصاً بنيوياً في المؤسسات الوسيطة القادرة على احتضان وتوجيه الطفولة والشباب.
من هوية اللعب إلى هوية القيم
الطفل المغربي، كما الطفل في أي مكان في العالم، لا يعيش فصلاً عن محيطه، بل يتفاعل مع خطاباته، ويلتقط بإيقاع فطري توترات الوجود من حوله. من هنا، فإن التخييم لا يمكنه أن يستمر بهوية اللعب فقط، بل يجب أن يُبنى على هوية القيم. قيم الحوار، التسامح، التعاون، العمل الجماعي، احترام الآخر، حماية البيئة، الانتماء للمجال، وغيرها من القيم التي تصنع الملامح الأولى لمواطن الغد.
إن بناء التخييم على أساس تربوي عميق، يستلزم تجديد الخطاب التربوي نفسه، والخروج من منطق الشعارات العامة إلى منطق التصورات المندمجة، القائمة على الإدماج والتفاعل والاعتراف بالخصوصيات الجهوية والثقافية واللغوية.
الجامعة الوطنية للتخييم: من التنسيق إلى الفعل الاستراتيجي
في هذا السياق العام، جاءت التحولات الأخيرة التي باشرتها الجامعة الوطنية للتخييم، بقيادة امحمد كليوين، لتعيد التخييم إلى سكّته الأصلية، لا كحقل محايد، بل كأداة تغيير اجتماعي عميق. فالرجل، الذي راكم تجربة ميدانية واسعة، كان منذ البداية مدركاً أن التحدي الحقيقي لا يكمن في تنظيم مخيم ناجح، بل في بناء مشروع مجتمعي من خلال التخييم.
تحت قيادته، تحوّلت الجامعة من مجرد هيئة تنسيق بين الجمعيات، إلى مؤسسة اقتراحية وتكوينية وإشعاعية، لها رؤية واضحة، وشبكة علاقات مؤسساتية ومجتمعية، وقوة ترافعية في قضايا الطفولة والشباب.
ومن أبرز التحولات التي يمكن رصدها:
1. توسيع قاعدة الشراكات مع مختلف المتدخلين في القطاع (وزارات، جماعات، منظمات دولية).
2. تأهيل البنيات التكوينية وتحديث آليات التكوين، خصوصاً في ما يتعلق بالإطار المرجعي للمؤطرين والمنشطين.
3. إطلاق مبادرات مجالية تُمكّن من إدماج الأطفال في العالم القروي والمناطق النائية.
4. تبني منطق العدالة التربوية في توزيع الفرص، وتمكين الجمعيات الجادة من آليات الاشتغال والتكوين والمرافقة.
الشباب المغربي بين الحاجة إلى الاعتراف والرغبة في الفعل
واحدة من الإشكاليات الكبرى التي تعاني منها السياسات العمومية المرتبطة بالشباب هي غياب مساحات فعلية للاعتراف والمشاركة. التخييم، حين يُدبّر برؤية استراتيجية، يمكن أن يتحوّل إلى منصة لبناء الثقة بين الشباب والمؤسسات. فالشاب الذي يُشارك في إدارة المخيم، أو يؤطر الورشات، أو يساهم في تهيئة فضاء تربوي، يشعر بانتمائه للمشروع الوطني.
ومن هنا، فإن الجامعة الوطنية للتخييم ليست مجرد هيئة إدارية، بل هي فضاء لنموذج جديد من الحكامة المدنية، حيث الشفافية، التشاركية، المأسسة، والتقييم المستمر.
الرهان التربوي والثقافي في زمن الاضطراب القيمي
إن التحدي التربوي اليوم لم يعد تقليدياً، لأن الفضاءات الجديدة للتأثير لم تعد المدرسة أو الأسرة فقط، بل هناك فاعلون آخرون: وسائل التواصل الاجتماعي، الثقافة الشعبية، الميديا، الألعاب الرقمية، وغيرها. ولهذا، فإن التخييم يجب أن يعيد بناء علاقته بالثقافة.
نقترح هنا ثلاثة مستويات من الرهان:
الرهان الثقافي: إدماج الثقافة المغربية بأبعادها الأمازيغية والعربية والحسانية كعنصر أساس في البرامج التخييمية.
الرهان البيئي: تحويل التخييم إلى حاضنة للوعي البيئي، من خلال ممارسات حية وميدانية.
الرهان القيمي: التركيز على قيم التسامح، التعدد، والاختلاف.
محمد كليوين: من الممارسة إلى الرؤية
لا يمكن الحديث عن التحول الذي تعرفه الجامعة الوطنية للتخييم دون التوقف عند شخصية رئيسها محمد كليوين، الذي لا يشتغل بمنطق الواجهة، بل بمنطق التأطير والتأثير. يجمع الرجل بين التكوين الأكاديمي، والخبرة الميدانية، والشبكة المؤسساتية، مما خوّله قيادة هذا التحول بهدوء وثبات.
هو لا يتحدث كثيراً، لكنه يشتغل كثيراً، يفتح الأبواب، ويؤمن أن الجامعة ليست ملكاً له، بل فضاء لكل الجمعيات الجادة، وكل الفاعلين الحقيقيين في الحقل التربوي.
التخييم والعدالة المجالية: سؤال التوزيع العادل للفرص
إن التخييم ليس حكراً على أبناء المدن، بل هو حق مشروع لأطفال الجبال، والمداشر، والمناطق النائية. ولهذا، فإن الجامعة تعمل ضمن رؤيتها الجديدة على دعم مشاريع المخيمات القروية، وتكوين الأطر المحلية، وتشجيع المبادرات التي تنبثق من الهوامش.
العدالة التخييمية هي جزء لا يتجزأ من العدالة المجالية. فإذا كانت البنيات التحتية لا تزال تكرّس التفاوت، فإن التخييم يمكن أن يُشكّل فرصة لكسر هذا التفاوت، ولو رمزياً، بإشراك الجميع في مشروع الوطن.
ليس التخييم نشاطاً عابراً، بل أداة استراتيجية في يد المجتمع. ليس خيمة فقط، بل فكرة. ليس فسحة فقط، بل مدرسة. ليس لحظة، بل مسار. وإذا كانت الدولة تراهن اليوم على إعادة بناء الثقة بين المؤسسات والمواطنين، فإن دعم الجامعة الوطنية للتخييم هو أحد المداخل الحيوية لتحقيق ذلك.
إن خيمةً صغيرة في قرية نائية، بإطار ملتزم، وبرنامج تربوي حي، يمكن أن تغيّر مسار طفل، وتفتح أمامه أفقاً جديداً للانتماء. فهنا بالضبط يبدأ الوطن.
وعليه، فإن ما تقوم به الجامعة الوطنية للتخييم اليوم، ليس فقط تطويراً لبنية تربوية، بل هو إعادة بناء لمسألة كبرى: كيف نُربّي أبناءنا خارج جدران المدرسة، وكيف نُعدّ مواطنين في زمن اللايقين؟
قد يبدو المخيم مجرد استراحة مدرسية لكنه مشروع برهانات كبرى غير تقليدية المنهج والمقاربات.