في مشهد لا يخلو من القسوة البناءة، وجه المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي صفعة قوية لمشروع قانون التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، واصفًا إياه بـ"قانون بلا بوصلة، فاقد للرؤية وعديم الأثر". لم تكن مجرد ملاحظات تقنية، بل تشخيص مؤسسي لخلل بنيوي ينسف رهانات الإصلاح من جذورها.
المجلس، وهو مؤسسة دستورية استشارية، كشف – في رأي نقدي مفصل – عن عجز المشروع عن رسم أفق استراتيجي واضح، وفشله في بناء منظومة معرفية قائمة على الجودة والعدالة والشفافية.
ومن خلال تحليل دقيق، وصف النص بأنه مفكك، محافظ، يفتقر للانسجام الداخلي، ويتجاهل استقلالية الجامعة وكرامة الطالب وحقوق المجتمع في تعليم عادل وناجع.
الجامعة تحت المقصلة: الفضيحة التي عرّت المستور
لم تمر أسابيع قليلة على إصدار رأي المجلس حتى تفجّرت واحدة من أخطر فضائح التعليم العالي في المغرب. ففي نهاية ماي 2025، كشفت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية عن شبكة منظمة يُشتبه في تورطها في "بيع الشهادات الجامعية" بجامعة ابن زهر بأكادير، يتزعمها الأستاذ الجامعي أحمد قيلش.
المفاجأة كانت صادمة: أزيد من 8 مليارات سنتيم (80 مليون درهم) تم رصدها في حسابات زوجة المعني بالأمر، مما يطرح سؤالًا حارقًا: كيف تحوّلت الجامعة إلى سوق سوداء تُباع فيها الشهادات العليا ويُمنح فيها التفوق للمقتدرين ماليًا، بينما يُقصى أبناء الفقراء وأبناء الشعب النزيهين؟
الفضيحة تحوّلت إلى زلزال مؤسساتي، دفع وزارة التعليم العالي إلى إعفاء رئيس الجامعة، وإيفاد لجنة تفتيش مركزية للبحث في أعطاب منظومة الماستر، وسط مطالبات بتوسيع التحقيق ليشمل شبكات أوسع من الريع الأكاديمي.
"قليش" ليس استثناءً.. بل رأس جبل جليد الفساد الجامعي
يُجمع خبراء في الشأن التربوي وأساتذة جامعيون على أن ملف "قليش" لا يمثل حالة فردية، بل يعكس واقعًا مُرًّا يتأسس على الريع، التواطؤ، واحتكار ولوج الدراسات العليا من طرف شبكات متغلغلة في كليات ومعاهد مغربية،صوت من داخل الجامعة صرّح لنا: "المافيا الأكاديمية باتت تتحكم في مصير أبناء المغاربة. الشهادات العليا أصبحت تُمنح لمن يدفع أكثر، والطالب المجتهد يُقصى لأنه يفتقر إلى 'الوساطة' و'الولاء'. إنها خيانة للمجتمع والدستور".
أمام هذا الواقع، لا عجب أن يشعر الطلبة، خصوصًا من الأوساط الفقيرة، بالإقصاء والظلم، وهم يشاهدون حقهم يُنهب في وضح النهار، وسط صمت إداري وإعلامي مريب.
مأساة هيكلية: حين يتحول التعليم إلى بوابة للظلم الاجتماعي
تكشف المعطيات أن الفساد داخل الجامعة لا يقتصر على شهادات تُباع، بل يتسلل إلى المناهج، التعيينات، التقييمات، والولوج للمراكز البحثية. الريع الأكاديمي يفرض نظام ولاءات يُقصي الكفاءات، ويُكرّس مناخ انعدام الثقة في منظومة التعليم برمّتها.
وتحول الشهادة إلى سلعة يعني تدمير مبدأ تكافؤ الفرص، الذي يُفترض أنه عماد الدولة الاجتماعية. من يُعوّض أبناء الفقراء عن سنوات اجتهدوا فيها ليجدوا "نافذة واحدة مغلقة"؟ من يحمي حلم الطبيبة القادمة من دوار ناءٍ حين تُقصى لصالح من يملك حسابًا سمينًا أو "ظهرًا" نافذًا؟
المشروع بلا تمويل.. بلا آجال.. بلا روح
رأي المجلس الأعلى لم يغفل الجانب الاستراتيجي، إذ وصف المشروع بأنه يفتقر لأي تصور تمويلي مستدام، ولا يتضمن خططًا متعددة السنوات، ولا حتى آجالًا زمنية للتنفيذ أو آليات للتتبع والمساءلة.
كما انتقد تغييب المهام الجوهرية للجامعة: تنمية الشخصية المتكاملة للطالب، إشاعة الثقافة العلمية، وخدمة المجتمع.
وهي مهام كانت، تاريخيًا، سببًا في نهضة الجامعات في العالم، بينما تذوي اليوم في المغرب خلف حسابات ضيقة ومنظومات ريعية خانقة.
إصلاح حقيقي أم "إعادة إنتاج الأزمة"؟
ما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمة قانون أو فضيحة فردية، بل انعكاس لانهيار الثقة في التعليم كمصعد اجتماعي. لا إصلاح ممكنًا دون محاربة جذرية لشبكات الفساد، ولا عدالة تعليمية دون إشراك المجتمع المدني، وتكريس الشفافية، ومأسسة الرقابة.
إن إطلاق يد الدولة في الضبط، وتمكين الطلبة من آليات التبليغ والحماية، وتعزيز استقلالية المجالس الجامعية والبحثية، كلها خطوات ضرورية نحو جامعة وطنية حرة ونزيهة.
نحو جامعة لا تُباع فيها الشهادات ولا يُقصى فيها الفقراء
التعليم العالي ليس امتيازًا للنخبة، بل حق أصيل لكل مغربي ومغربية، وعلى الدولة أن تسترجع هذا الحق من براثن المتاجرين بالعلم.
لا معنى لأي مشروع قانون إن لم ينتصر لأبناء الدواوير، لأبناء الأمهات المعيلات، للطلبة الذين يصعدون الجبال ويقطعون الكيلومترات من أجل درس واحد.
الجامعة ليست سوقًا، ولا "ضيعة" للنافذين. هي قاطرة للعدالة الاجتماعية، وحين تفسد هذه القاطرة، ينهار كل شيء.
لا قانون بلا خيال… ولا جامعة بلا مقاومة
إن صوت المجلس الأعلى، وصوت الطلبة المتضررين، وصوت الضمير العام، يتقاطع اليوم في رسالة واحدة: لا مستقبل لتعليم بلا استقلال، ولا جدوى من إصلاح لا يواجه المافيات، ولا عذر للسكوت بعد اليوم.
الجامعة المغربية في حاجة إلى مقاومة… مقاومة تقودها الأيادي النظيفة، والعقول الحرة، وأبناء الفقراء الذين ما يزالون يؤمنون بأن المستقبل ليس للبيع.