في خطاب لافت، أطلق عبد الله بوانو، رئيس المجموعة النيابية لحزب العدالة والتنمية، اتهامات غير مسبوقة لرئيس الحكومة المغربية، عزيز أخنوش، مشيرًا إلى “شبهة ارتكاب جريمة الاتجار في البشر” على خلفية ما وصفه بـ”الطريقة غير القانونية والمهينة” التي يتم بها تجميع المواطنين للمشاركة في اللقاءات الجهوية التي يعقدها حزب التجمع الوطني للأحرار. هذه الاتهامات، التي صدرت خلال المؤتمر الجهوي للحزب بمدينة الرشيدية يوم السبت 29 يونيو 2025، تتجاوز حدود الصراع السياسي التقليدي، لتلامس عمق إشكالات حقوق الإنسان، وسيادة القانون، والعدالة الاجتماعية.
بوانو أكد أن الحضور الكثيف في هذه اللقاءات الحزبية لا يعكس بالضرورة انخراطًا طوعيًا حُرًّا، بل هو نتيجة استغلال مباشر لهشاشة اجتماعية واقتصادية لفئات عريضة من العمال والمستخدمين في مؤسسات مملوكة لوزراء ومنتخبين تابعين للحزب الحاكم. الأخطر، حسب ما كشفه، هو أن تنقيل هؤلاء يتم بواسطة وسائل نقل تابعة للجماعات المحلية التي يسيطر عليها نفس الحزب، في توظيف فجّ لموارد الدولة، وتحويل للمرافق العمومية إلى أدوات دعائية تُخضع الإنسان لاختيارات لا تعكس إرادته الحرة، ما يُعد، وفق القانون المغربي رقم 27.14 المتعلق بمكافحة الاتجار بالبشر، سلوكًا قد يدخل في نطاق الجريمة المنظمة القائمة على الاستغلال وانعدام الرضى الحرّ.
من هذا المنظور، لا يمكن التغاضي عن دلالات ما جاء في خطاب بوانو، الذي دعا بشكل صريح إلى تدخل النيابة العامة، أو على الأقل إلى فتح نقاش سياسي وقانوني تحت إشراف الدولة، حول مدى احترام مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين الفاعلين السياسيين، في سياق الإعداد للاستحقاقات الانتخابية المقبلة. فالصمت في مثل هذه القضايا لا يُعدّ حيادًا مؤسسيًا، بل تواطؤًا مع منطق يُقوّض أسس الديمقراطية ويمسّ جوهر الكرامة الإنسانية.
إن ما أثاره بوانو لا يتوقف عند الجوانب السياسية، بل يفتح جرحًا عميقًا في جسد الثقة العامة، حين تُستعمل الهشاشة الاجتماعية كورقة ضغط، ويُختزل المواطن إلى مجرد “رقم تعبئة” في مشهد حزبي يُفترض أن يُبنى على الإقناع، لا على الإكراه المقنّع. هنا، يتقاطع الفعل السياسي مع سؤال أخلاقي وقانوني: هل يُعقل أن تتحوّل وسائط الدولة إلى أدوات هيمنة حزبية؟ وهل يجوز أن يُستغل الإنسان كوسيلة في مشروع انتخابي مغلّف بخطاب تنموي؟ وأين تقف مسؤولية الدولة في حماية الإرادة الحرة للمواطن وضمان حياد المرافق العمومية؟
اعتبر بوانو كذلك أن حكومة أخنوش فقدت شرعيتها الأخلاقية والسياسية، منذ أن انقطعت صلتها بالتزاماتها الانتخابية، وتحولت إلى جهاز لتصريف الأعمال بلا أثر ملموس في حياة الناس. هذا التوصيف، إذا ما قُرئ من زاوية سياسية وحقوقية، يشير إلى أزمة تمثيلية خطيرة تتطلب أكثر من مجرد تعديل حكومي، بل تفرض إعادة بناء علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع، تقوم على الوضوح والمحاسبة والعدالة في توزيع الموارد والفرص.
وفي خطوة لافتة، أعلن بوانو عن قرب صدور كتاب جديد يتضمن ما وصفه بـ”تفاصيل صادمة” عن واقع القطاع الفلاحي بالمغرب، مسلطًا الضوء على ما اعتبره غيابًا للشفافية واستشراءً للريع في عمليات استيراد المواشي وتدبير الدعم العمومي، في قطاع حيوي يشكّل ركيزة الأمن الغذائي والاجتماعي. هذه المبادرة لا تنحصر في كشف الفساد، بل تندرج في إطار الحق في المعلومة كأحد أركان المواطنة الحقة، وتُبرز الحاجة إلى رقابة مدنية مستنيرة ومبنية على الوقائع.
الرسالة الأهم التي تُستشفّ من خطاب بوانو ليست فقط في مضمون الاتهامات، بل في دعوته الضمنية إلى استعادة الإنسان المغربي لحقه في القرار الحر، والكرامة غير القابلة للمساومة، والعدالة التي لا تُخضعه لمنطق الحزب أو رأس المال. فحين يُستغل الضعف البشري لتحقيق مكاسب سياسية، تتحول الانتخابات من فرصة لبناء المستقبل إلى تمرين على الإكراه الجماعي.
إن مَن يملك السلطة والمال لا يملك بالضرورة الشرعية الأخلاقية. تلك تُبنى عبر احترام الإنسان، لا عبر توجيهه أو تأطيره قسرًا في طوابير الولاء. وإن حماية الكرامة ليست امتيازًا تمنحه السلطة، بل حق أصيل تضمنه الدولة بمؤسساتها، وتقف له الصحافة الحرة والضمير الوطني بالمرصاد.
في هذا السياق، تبقى العدالة والمساءلة الركيزة الأساسية لكل تحول ديمقراطي حقيقي، وتظل يقظة المجتمع والفاعلين السياسيين النزهاء ضرورة لمجابهة كل أشكال الاستغلال المقنّع، وحماية الفضاء السياسي من التواطؤ بين المال والنفوذ، على حساب الكرامة والحق والإنصاف.