قدمت الدوحة نفسها على مدى سنوات باعتبارها عاصمة الوساطة وجسر التفاهمات في أزمات المنطقة، من فلسطين إلى السودان وأفغانستان.
غير أن الوقائع الأخيرة أثبتت أن قطر، رغم كل خطابها السياسي والإعلامي، ليست سوى ساحة مكشوفة أكثر مما هي دولة قادرة على فرض إرادتها أو حماية كرامتها. فهي تتباهى بأنها الوسيط النزيه بين إسرائيل و"حماس"، لكنها في الوقت ذاته تحتضن قيادات الحركة وتوفر لهم منصة سياسية وإعلامية، ما يجعلها في نظر كثيرين طرفا لا وسيطا، ومجرد أداة في حسابات الآخرين.
حتى إسرائيل لم تتورع عن اتهامها باللعب على الحبلين، وهو ما ينسف الصورة التي تحاول الدوحة تلميعها في المحافل الدولية.
الاستهداف الإسرائيلي الأخير لقادة "حماس" في الدوحة، سواء جرى تنفيذه أو أحبط، يكشف هشاشة السيادة القطرية...
فمجرد التفكير في اختراق أجواء العاصمة دليل على أن الدولة تحولت إلى ساحة لتصفية الحسابات أكثر من كونها بلداً يفرض احترامه. والسؤال الملح: كيف يمكن لدولة أن تسمح لنفسها بلعب دور الحكم بينما لا تملك القدرة على حماية ملعبها؟
حتى الإعلام القطري، وفي مقدمته "الجزيرة"، لم يكن في مأمن من الاستهداف، فقد قصفت مقراته في غزة وقتل صحافيوه، واكتفت الدوحة ببيانات الإدانة، ما يعكس عجزها عن حماية ذراعها الإعلامي الأقوى.
فإذا كانت غير قادرة على حماية منابرها، فكيف يعول عليها في الدفاع عن سيادتها أو حماية من تستضيفهم؟
لقد ظنت الدوحة أن احتضانها للحركات الإسلامية سيمنحها مكانة تفاوضية لا ينازعها فيها أحد، لكن هذه الورقة تحولت إلى عبء سياسي وأمني جعل منها أشبه بفخ لتلك الحركات، تستغل صورتها كداعم ثم تترك مكشوفة أمام التهديدات.
إنها مقامرة بمستقبل دولة صغيرة تطمح إلى أن تكون رقماً صعباً، لكنها تنتهي كأداة في يد اللاعبين الكبار.
الدوحة اليوم أمام مفترق طرق حاسم، فإما أن تستمر في دور الوسيط الذي لا يحترمه أحد، وإما أن تعيد تعريف سياستها الخارجية بما يحفظ كرامتها قبل نفوذها. فالوساطة التي لا تصون السيادة ليست وساطة، بل وهم سياسي يُسَوّق للخارج ويستنزف الداخل.