” حكماء” وزارة برادة يعيدون المراقبة المستمرة لصيغة بائدة… المراقبة الغول

برادة يهرب من احتاج مديري المؤسسات بقهر المديرين الأقليميين

Last Update :
” حكماء” وزارة برادة يعيدون المراقبة المستمرة لصيغة بائدة… المراقبة الغول
خالد أخازي
ها هي وزارة التربية الوطنية تصدر مذكرتها الأخيرة حول المراقبة المستمرة، وكأنها تقدم للعالم “خارطة طريق نحو التفرد التربوي”، بينما الواقع يشي بأن المدارس أصبحت ساحات لمختبر تقني بيروقراطي، حيث يتحول المدير الذي كان يفترض أن يكون قائداً تربوياً إلى موظف بشري للآلة، يكدّ بين الحبر والورق والناسخات.

وكل ابتكار أو تدبير شخصي يصبح عبئا غير مرغوب فيه، وكل حرية في اتخاذ القرار تسحب إلى السلم الإداري أو الآلية التقنية الجهوية.

وحين يحتج مديرو المؤسسات عبر نقاباتهم ومنظماتهم، يتم نقل العبء إلى المديريات التي لا قناة لمسؤوليها للإحتجاج بل لتصريف وجهات النظر، لأن جنرالات الحاكم التربوي، لا يريدون شركاء حقيقيين في التدبير، بل جنودا بلقب " مدير إقليمي" لا دور له غير التنفيذ، وفق تدبير عمودي مقلق ومنهك.

 

المذكرة الآمرة، التي لم تكن كالعادة مخرجات مشاورات موسعة، بل مزاجية تكرس مركزية بائدة، تتباهى بتوحيد المعايير وضمان السرية، لكن سر التعليم الحقيقي، متابعة المتعلم ودعم صعوباته، صار هامشا ثانويا، وتحرير المؤسسات من سلطة المركز لتكون مندمجة في وسطها، غدا شعارا قديما.

والحلول الترقيعية جاهزة، نقل المصيبة للمديريات، حيث لا احتمال لردة فعل، وارتحنا من " الصداع" ...المديريات تكلف الآن بكل شيء: الطباعة، النسخ، التوزيع، صيانة الطابعات، وحتى مراقبة الحضور أثناء الفروض، كل ذلك في حل سريالي يحوّل عبء المؤسسات إلى المديريات دون توفير موارد إضافية أو تجهيزات كافية، وكأن نقل الكأس المملوءة بالماء من يد إلى أخرى سيجعلها أخف.

الأمر الأكثر سخرية هو استهداف القرار أساسا لـ«مدارس الريادة»، تاركا باقي المدارس في حقل تجارب غير محمي، تتخبط بين نسخ وحبر ناقصين، وتنتظر “الريادة” لترسل لها بقايا التنظيم المركزي.

الفرض الموحد، بدل أن يكون أداة عدالة، يتحول إلى وسيلة لتمييز بين المؤسسات، ويكرّس التفاوت... وتعذيب المديرين الأقليميين، وقد خرجوا توا من مهمات يشيب لها الولدان....

المذكرة المارقة النشاز، تتغاضى عن الرؤية: لا رؤية للتعلم، لا رؤية للابتكار، لا رؤية لجودة التعليم، ولا مكانة للمدرسة في المجتمع.

كل شيء أصبح تقنية وحسابات، والمراقبة المستمرة صارت عملية بيروقراطية صماء، بينما الهدف الأساسي، تحسين التعلم ودعم الطالب، يختفي خلف صمامات النسخ والطباعة.

المدرسة لم تعد فضاء للتدبير والابتكار، بل مصنع تنفيذ بارد. المدير أصبح موظفا ينقل النسخ، يوزع الفروض، يسلم القوائم، ويوقع على محاضر لا تضيف شيئاً للتربية. الأساتذة، تحت ضغط الرزنامة المحددة، يتحول الفرض لديهم من أداة تربوية إلى عبء يجب إنجازه وفق ورق وزمن، بعيداً عن واقع الفصول المكتظة والحصص المزدحمة.

المراقبة المستمرة مجرد صيغة تقويمية لتشيخيص التعثرات وإصدار حكم بيداغوجي، طالما ناضلت المدرسة على جعلها حدثا عاديا، لا يشكل فوبيا مدرسية، وعملية مندمجة في المنهاج زمنيا، ولا ترهق وجدانيا ونفسيا المتعلمين.

ها نحن نخطو نحو الوراء، ونستثمر في صيغ متجاوزة للمراقبة المستمرة، ونعود لصيغ للمراقبة الغول المخيف، بدل المراقبة السلسة الناعمة الإجراءات، لتطويق فوبيا المحكات البيداغوجية... نكسة أخرى...

فذلك البعد الذي يفترض أن يتيح لكل مؤسسة صياغة تجربة تعليمية ملائمة، تلغيه المذكرة لصالح التنسيق الأقليمي ولو لوجستيكيا والنسخ الموحد، وكأن الابتكار التربوي أصبح جريمة إدارية. كل حرية اختيار للأساتذة أو المديرين تقيد بمعايير رسمية، وكل محاولة ابتكار تُقابل بجهاز لوجستي يقيس الورق لا الفهم.

هذا التحول البارد من مؤسسات التدبير والابتكار إلى مؤسسات التنفيذ لا يهدد فقط جودة التعليم، بل يقتل روحه. المراقبة المستمرة، التي كان من المفترض أن تكون أداة دعم وبناء، تحولت إلى آلة ورقية وسلسلة إجراءات إدارية بلا روح، بلا حس إنساني، بلا بيداغوجيا حقيقية.

ومع ضعف التجهيزات، وتباين توطين المؤسسات، بين عالم قروي مشتت، وحضري منهك، تفاوت الموارد بين المديريات، غياب الاستشارات الميدانية، وانعدام خطة واضحة للتعويض عن الفارق التقني بين المديريات، تتحول المذكرة إلى احتفال شكلي بالرقم والإجراء، لا إصلاح فعلي للتعليم.

الورق يكثر، الحبر يستهلك، النسخ تتكاثر، لكن التعلم والجودة والخصوصية تتراجع، كما لو أن الوزارة أحبّت الحبر أكثر من التلاميذ والأساتذة والأطر الإدارية، وأعلنت الحرب على البيداغوجيا باسم التقنية والتنظيم... هذه مجرد محطة للهدر المالي والمادي والزمني.

 

تكليف المديريات بالمهمة حل ترقيعي مرهق ومكلف وجبان، يحول المشكلة من مدارس إلى مراكز إقليمية، دون معالجة جذور العطب، ومع ذلك يُقدّم على أنه إنجاز إداري.

والمدارس، بدلا من أن ترتقي إلى مستوى التدبير والابتكار، تجبر على الركوع أمام الورق والرزنامة والنسخ، تاركة الجودة التربوية والأصالة التعليمية في الظل، والإدارة التقنية فوق كل شيء، كقالب جامد يخنق كل روح وكل لحظة تعليمية كانت يمكن أن تكون نابضة بالحياة.

الوزارة، بهذه المذكرة، تبدو أكثر عشقا للحبر والنسخ والرقم، من عشقها للتعلم والإبداع، وكأن التقنية والتنظيم أصبحا غايتين في حد ذاتهما، بينما الهدف الأصيل للتعليم، أي الطالب المتعلم، هو الضحية الكبرى في هذه المسرحية الورقية.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

Comments 8 تعليقات
Type a small note about the comments posted on your site (you can hide this note from comments settings)
الأخبار العاجلة

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...Learn More

Accept