رحيل سيدة الضوء: سميحة أيوب تُسدِل الستارة بصمت الكبار

Last Update :
رحيل سيدة الضوء: سميحة أيوب تُسدِل الستارة بصمت الكبار
أميمة بارع

في صبيحة حزينة من يونيو، خفتَ صوتٌ ظلّ يرنُّ في ذاكرة المسرح العربي لأكثر من سبعين عامًا. رحلت سميحة أيوب، ابنة شبرا وصوت الخشبة الصداح، التي علّمت الأضواء كيف تنحني لخطى الممثّل حين يكون فنّه صدقًا خالصًا ووهجًا لا ينطفئ.

وُلدت عام 1932 في حي شبرا الشعبي، حيث تنمو البدايات الخجولة على أرصفة البسطاء. ومن هناك، بدأت الرحلة: فتاة في الخامسة عشرة تطرق أبواب السينما بفيلم "المتشردة"، ثم تمضي بخطا واثقة إلى معهد الفنون المسرحية، حيث يصقلها زكي طليمات كحجر كريم ينتظر منصّة يليق بها أن تتجلّى.

لم تكن سميحة فنانة عابرة، بل أيقونة تنسج حضورها في كل تفصيلة، من حركة اليد إلى ارتعاشة الصوت. كانت تقف على المسرح كما تقف نخلة على ضفّة النيل: شامخة، ضاربة الجذور في التقاليد، وارفة بالحسّ الحديث.

من "الناس اللي في السما التامنة" إلى "السبنسة"، ومن "سكة السلامة" إلى "دماء على أستار الكعبة"، جسدت أيوب وجع الناس، قلق الوطن، وشغف الإنسان بالحرية والجمال. لم تكن تمثّل، كانت تحيا كل دور وكأنه وثيقة شخصية تنزف بها على الخشبة.

كرّست المسرح لا كمهنة، بل كمصير. وإذ كانت تُلقّب بـ"سيدة المسرح العربي"، لم يكن اللقب تكريمًا رسميًا فحسب، بل اعترافًا جمعيًّا من جمهور رآها مرآةً صافية لآلامه وأحلامه.

رغم التقدير الرسمي ووسام الفنون من الطبقة الأولى، ظلّت سميحة تجرّ جسدها المنهك في صمت، تصارع مرض السرطان، وتتأمّل وحدتها الأخيرة من شرفتها في الزمالك. لم تكن تشتكي، بل تلوّح من بعيد كمن يعرف أن النهاية ليست موتًا، بل ذروة العرض.

في هذا اليوم، أُسدل الستار. ولكنّ المسرح لا يُطفأ، لأن الأرواح النبيلة لا تنسحب... بل تظل تحرس الفن من النسيان.

سميحة أيوب لا تموت. إنها تنتقل إلى ذاكرة الفن، إلى مدارس التمثيل، إلى همسات المتفرجين في العتمة، حين يهمس أحدهم: "كأنها على الخشبة حيّة". لقد غادرت الجسد، وبقي الصوت، والصدى، والعين المبللة على مقعد الطابق الثاني في المسرح القومي.

سلامًا لسيدة الضوء.

سلامًا لمن عاشت بكرامة وماتت في صمت النبلاء.

سلامًا على الخشبة التي لن تنسى آثار قدميكِ.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

Comments تعليق واحد
Type a small note about the comments posted on your site (you can hide this note from comments settings)
  • punta cana airport transfers 6 يونيو 2025 - 3:35

    I do not even understand how I ended up here, but I assumed this publish used to be great

الأخبار العاجلة

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...Learn More

Accept