وسط تجاذبات حادة حول مشروع القانون المنظم للحق في الإضراب، ومع تصاعد دعوات الاحتجاج والإضراب الوطني المزمع تنظيمه يوم الأربعاء 5 يناير 2025، دخل المجلس الوطني لحقوق الإنسان على خط النقاش، مُقدِّمًا مذكرة تفصيلية تضمّنت انتقادات جوهرية ومقترحات إصلاحية، أكد من خلالها أن الإضراب حق دستوري غير قابل للتضييق إلا في حالات استثنائية، وبما يتوافق مع المبادئ الأممية لحقوق الإنسان.
ديباجة غائبة.. فلسفة تشريعية ناقصة
أولى الملاحظات التي سجّلها المجلس تمثّلت في غياب الديباجة عن مشروع القانون، وهو ما اعتبره نقصًا يحدّ من وضوح النص ويقلّل من إمكانية تأويله بشكل متوازن. ودعا المجلس إلى إدراج ديباجة تُبرز مرتكزات القانون ومبادئه المؤطرة، أو التنصيص في مادة مستقلة على أسس حماية الحق في الإضراب، بما يضمن التوفيق بين الحرية النقابية وضوابط استمرارية العمل.
توسيع دائرة الإضراب.. مطلب حقوقي ملحّ
لم يقتصر المجلس على الجوانب الشكلية، بل طالب بتوسيع مفهوم الإضراب ليشمل الدفاع عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية والمهنية، انسجامًا مع مدونة الشغل، كما شدد على ضرورة الاعتراف بشرعية الإضرابات التضامنية والتناوبية، مع ضمان احترام مقتضيات السلمية والتنظيم.
قيود مثيرة للجدل.. تقييد أم تنظيم؟
في معرض تقييمه للقيود الواردة في النص، أبدى المجلس تحفظًا على المادة التي تحظر الإضراب لأغراض سياسية، مقترحًا إعادة صياغتها لتفادي أي تأويلات قد تُستغل لتقييد الحريات النقابية. كما طالب بضمان أن يكون تعليق الإضراب في الحالات الاستثنائية من اختصاص هيئات محايدة، مع ضرورة تقنين أي قيود تُفرض خلال الأزمات والكوارث، بحيث تظل محدودة زمنيًا ومتناسبة مع الوضعية الطارئة.
تعقيد زمني قد يفرغ الإضراب من محتواه
انتقد المجلس الوطني لحقوق الإنسان طول المهل الزمنية التي يفرضها مشروع القانون قبل الشروع في الإضراب، معتبرًا أن اشتراط مهلة 30 يومًا قد يُفقد الاحتجاج فعاليته، داعيًا إلى تبسيط هذه الإجراءات وتحديد آجال أكثر مرونة، بما يتيح معالجة النزاعات العمالية بشكل أكثر سلاسة ودينامية.
ضمان استقلالية النقابات.. مطلب أساس
سجّل المجلس رفضه لعدد من المقتضيات التي رأى فيها تدخّلًا غير مبرّر في قرارات الهيئات النقابية، مثل إلزامها بالإعلان المسبق عن تاريخ ومكان الجمع العام قبل اتخاذ قرار الإضراب، وهو ما اعتبره مسًّا باستقلالية القرار النقابي. كما طالب بحذف المادة 4 التي تمنع المضربين من التواجد داخل أماكن العمل، مشددًا على أن ذلك قد يشكل تضييقًا على حرية التعبير والاحتجاج السلمي.
عقوبات وإجراءات مالية.. بين الردع والإنصاف
فيما يخص العقوبات، دعا المجلس إلى إلغاء الغرامات المالية المفروضة على المضربين، مع إعادة النظر في الاقتطاعات من الأجور، لضمان تناسبها مع مدة الإضراب وعدم استخدامها كأداة للعقاب الجماعي. كما شدد على ضرورة حصر العقوبات الجنائية في حالات العنف أو التجاوزات الخطيرة، دون المساس بالحقوق الأساسية للعمال.
بين الضغوط الحقوقية والخيار التشريعي.. أي مآل لمشروع القانون؟
تضع مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان البرلمان أمام تحدٍّ كبير: هل سيستجيب لضغوط الفاعلين النقابيين والحقوقيين ويُعدّل النص بما ينسجم مع مقتضيات الدستور والاتفاقيات الدولية، أم سيمضي في تمرير مشروع القانون بصيغته الحالية، رغم ما يثيره من انتقادات وتحفظات؟ الجواب يبقى رهن تفاعلات المشهد السياسي والاجتماعي خلال الأيام المقبلة، في ظل تصاعد الاحتقان العمالي واتساع دائرة المطالب بالتراجع عن أي تضييق على الحق في الإضراب.