كلمة للوزير برادة عله لا تفتنه الأرقام الخادعة: TARL في المغرب إعادة تدوير الفشل أم وهم الإصلاح؟

Last Update :
كلمة للوزير برادة عله لا تفتنه الأرقام الخادعة: TARL في المغرب إعادة تدوير الفشل أم وهم الإصلاح؟
خالد أخازي

في ظل تناسل المبادرات الإصلاحية في منظومة التعليم بالمغرب، تظل الغلبة للوصفات المستوردة من الخارج، كأننا نسعى باستمرار إلى "كبسولات جاهزة" لحل مشكلات معقدة. نموذج "التعليم حسب المستوى المناسب" (Teaching at the Right Level – TARL) الذي جاء من الهند، يُروّج له كحل ثوري لإنقاذ منظومة تعليمية تعاني من اختلالات عميقة، لكنه في الواقع يعيد تقديم نفس الفشل بلغة أجنبية، ومن دون مراعاة جذرية للخصوصيات المحلية.

المغرب لا يعيش الهند، فلا هي نفس السياقات الاجتماعية ولا البنية التحتية ولا توزيع القدرات. فلماذا إذن استيراد هذا النموذج كأنه وصفة علاج موحدة؟ وهل نتحدث حقاً عن إصلاح أم عن إعادة تدوير عبثية لفشل مستدام؟ هذه المقالة تتناول نموذج TARL من منظور نقدي، تكشف ما وراء الضجة الإعلامية، وتضع إصبعها على مكامن الخلل والرهانات الحقيقية.

من الهند إلى المغرب: هل نحن نفس المرضى؟

في الهند، جاء نموذج TARL في سياق كارثة تعليمية تفرضتها الأميّة المدقعة والتفكك الاجتماعي في المناطق القروية النائية.

النظام التعليمي التقليدي لم يعد قادرًا على الاستجابة، ومع دعم هائل من منظمات دولية، برزت فكرة فرز التلاميذ حسب المستوى الحقيقي في القراءة والحساب، بغض النظر عن السن أو الصف، بهدف علاج الفجوات التعليمية العميقة.

أما في المغرب، فإن الواقع مختلف تمامًا. رغم الإكراهات، لم يصل التعليم بعد إلى حالة انهيار شبه تام. لكننا، وفي غياب خطة وطنية واضحة، تمّ استيراد نموذج TARL كما هو، من دون تعديل أو دراسة جدوى حقيقية. هذه الخطوة تُظهر غياب رؤية استراتيجية، وكأننا نعاني من نفس الداء الهندي ونتوقع علاجًا مطابقًا، مما يفتح الباب واسعًا للإخفاق.

إصلاحات متكررة، نفس الفشل: تاريخ عبثي مع الإصلاحات الترقيعية

لا يمكن فهم TARL بمعزل عن التاريخ الطويل للإصلاحات التعليمية في المغرب، التي تمتد من الميثاق الوطني إلى المخطط الاستعجالي، ثم الرؤية الاستراتيجية 2030، والتي تتكرر فيها الأخطاء ذاتها. كل تلك المبادرات رفعت سقف التوقعات، لكنها لم تحل جذور المشكلات.

هل تغير شيء فعلاً؟ لم يتغير. استمر الهدر، وزاد الاكتظاظ، وتعمّقت فجوات التفاوت الاجتماعي. ما بين بيانات رسمية متفائلة وبين الواقع المزري للمدارس، يبقى "الإصلاح" مجرد شعارات ترافق تمويلات خارجية، تتحول إلى عبء ثقيل على كاهل المدرسين والأسر.

TARL، في هذا السياق، يندرج ضمن سلسلة الإصلاحات الترقيعية التي تغلف فشلها بغلاف تجريبي جديد.

TARL: عمق الخطأ في التعامل مع التفاوتات داخل الفصول

نموذج TARL يقوم على فكرة تصنيف التلاميذ حسب قدراتهم الفعلية، وهو مبدأ علمي بيداغوجي يحمل بعض المصداقية. لكن في المغرب، حيث التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية متجذرة، يتحول هذا التصنيف إلى سيف ذو حدين.حين يُقسّم التلاميذ داخل الفصل إلى مجموعات "ضعفاء" و"متوسطين" و"متقدمين"، فهذا ليس فقط تنظيمًا تربويًا، بل هو تأسيس لعزل اجتماعي داخل الحجرة الصفية. قد يبدو التمييز إيجابيًا ومؤقتًا، لكن بلا آليات دقيقة وضمانات واضحة...

قد تتحول هذه التسمية إلى وصمة تُحدد مصير التلميذ وتكرّس الفقر التعليمي، مع انعدام الفرص المتساوية.

إن البيداغوجيا الحديثة تؤكد أن التمييز داخل التعليم يجب أن يكون انتقائيًا، مؤقتًا، ويهدف إلى رفع المستوى بشكل ملموس، وإلا فإنه يتحول إلى تمييز مؤسساتي يكرر آفة العزل الطبقي.

نقص التكوين: عندما تُفرض السياسات على المدرسين بلا إعداد حقيقي

المدرس المغربي، الذي يتحمل أعباء العمل وسط بنية تحتية متدهورة، يواجه اليوم تحديًا جديدًا مع فرض نموذج TARL دون تكوين فعلي يوازي حساسية التطبيق. جلسات وورشات استعراضية عابرة لا تكفي لتجهيز مدرسين يعانون من الاكتظاظ والتجهيزات المحدودة.

الكثير من الأساتذة عبروا عن شعورهم بأن هذا النموذج يُفرض عليهم ببيروقراطية جديدة، من دون أخذ رأيهم أو احترام خبراتهم الميدانية.

الإصلاح الذي لا ينبع من القاعدة التربوية لا يمكن أن ينجح، وأي نموذج بدون تأهيل كافٍ للفاعلين يصبح مجرد عبء إضافي.

تقييم داخلي مُشكك: نجاح من ورق بلا استقلالية

مع بداية تطبيق TARL، أعلنت الوزارة عن تحسنات في معدلات التعلم استنادًا إلى اختبارات داخلية صممتها نفس الجهات المسؤولة عن التنفيذ. هذا النوع من التقييم لا يضمن الحياد ولا الموضوعية، وهو بعيد عن المعايير العلمية التي تعتمدها المؤسسات البحثية والجامعات.

غياب الشفافية في عرض النتائج، وعدم إشراك الجامعات ومراكز البحث التربوي، يعكس محاولة لتجميل النتائج على الورق فقط، دون تقييم دقيق للآثار الفعلية على أرض الواقع. هذا يُعيدنا إلى نقطة الانطلاق، حيث الإصلاحات تتحول إلى عمليات تسويقية أكثر منها عمليات إصلاح حقيقية.

العطب البنيوي: إصلاح بلا ديمقراطية تربوية لا يستقيم

الأزمة الحقيقية في التعليم المغربي ليست تقنية فقط، بل هي سياسية وبنيوية في جوهرها. الإصلاحات المستمرة دون إشراك حقيقي للمدرسين، الباحثين، والمجتمع المدني، هي إصلاحات من الأعلى إلى الأسفل، تُفرض ولا تُناقش.

TARL يكرّس هذه العقلية: نموذج يُفرض من مكاتب مكيفة، بعيدًا عن النقاش الوطني، وكأنه مشروع «تجربة» يُجرب على التلاميذ والمدرسين بدون مساءلة حقيقية.

حتى يتحقق إصلاح جذري، يجب أن تتحقق ديمقراطية تربوية فعلية، تشاركية، تمنح الفاعلين الميدانيين حق صنع القرار، لأن المدرسة ليست مختبرًا تُجرى عليه تجارب.

التمويل الخارجي: هل نملك القرار أم نتلقى الأوامر؟

الاعتماد الكبير على تمويلات البنك الدولي، الاتحاد الأوروبي، ومنظمات دولية أخرى، يجعل السياسات التعليمية مرتهنة لشروط خارجية. كل قرض أو هبة مرتبط بتنفيذ توصيات تخضع لمصالح هذه الجهات.

TARL نموذج واضح لهذا النوع من "الإصلاح المشروط" الذي لا نملك قراره الوطني، بل ننفذه كوكيل يتبع تعليمات خارجية. هذه التبعية تفرّغ التعليم من مضمونه الوطني والسيادي، وتخلق دوامة من الاعتمادية لا نهاية لها.

البديل الممكن: إصلاح من الداخل... رؤية وطنية قائمة على الكفاءة والعدالة

بدل البحث عن وصفات جاهزة، يجب على المغرب أن يبني نموذج إصلاحه الخاص، مستندًا إلى تحليل واقعي لمشكلاته، ومن خلال:

تعزيز التكوين الأساسي والمستمر للمدرسين، مع إتاحة موارد حقيقية.

تقليص الاكتظاظ، وتوفير بنية تحتية ملائمة.

إشراك الفاعلين الميدانيين في صنع القرار، والاعتراف بخبراتهم.

دعم البحث التربوي الوطني وربطه بقرارات السياسات.

اعتماد آليات تقييم شفافة ومستقلة.

هذه الخطوات ضرورية لبناء منظومة تعليمية قادرة على الصمود والتطور، تليق بطموحات المغرب وأجياله القادمة.

 TARL ليس حلاً.. بل كشف لمرض مزمن

نموذج TARL كما هو اليوم، ليس سوى وجه آخر لذات الأزمة البنيوية، يكرس التقسيم، يضعف الكفاءات، ويعمّق الاستعصاء بدل تجاوزه. الإصلاح الحقيقي يتطلب شجاعة الاعتراف بالفشل، وإرادة حقيقية لإشراك كل الفاعلين الوطنيين في بناء مدرسة مغربية تنبض بالحياة والكرامة.

نرفض الإصلاح المغشوش، ونرفض التبعية، ونطالب بإصلاح يحقق العدالة التعليمية والكرامة الإنسانية.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الأخبار العاجلة

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...Learn More

Accept