تصريحات منسوبة لإيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي في حكومة الاحتلال، حول ما أسماه "الحق في العودة إلى مراكش"، لا تخرج عن سياق سياسي مشحون، يرتبط بمحاولات إنتاج سرديات استيطانية بديلة في ظل تصاعد المقاومة الفلسطينية وتنامي عزلة إسرائيل الدولية.
هذا النوع من الخطاب يعكس اتجاهًا جديدًا داخل بعض دوائر اليمين الإسرائيلي المتطرف، يُعيد طرح "خيار الشتات المعكوس"، ليس من باب الذاكرة التاريخية بل من باب إعادة توظيفها كأداة ضغط جيوسياسي.
اختيار المغرب، تحديدًا، لم يكن عبثيًا. فمن جهة، العلاقات المغربية الإسرائيلية تشهد تناميًا غير مسبوق منذ اتفاق التطبيع، وهو ما يمنح دوائر النفوذ الإسرائيلي فسحة لاختبار إمكانيات "التوسع الناعم". ومن جهة أخرى، يحمل المغرب في نسيجه الوطني مكوّنًا يهوديًا عريقًا، لطالما اعتبره المغاربة جزءًا أصيلًا من الهوية الوطنية المتعددة. غير أن هذا المكوّن ذاته أصبح اليوم عرضة للاختطاف الرمزي من قبل تيارات صهيونية تحاول ربطه تعسفًا بالمشروع الاستيطاني في فلسطين، بل واستعماله كذريعة لتبرير مطالب سياسية مفخخة.
الخطاب الذي يحاول تصوير مراكش كـ"أرض أجداد" لليهود، واستعمال مصطلحات مثل "العودة" و"الأحقية"، ليس سوى إعادة إنتاج مبتذلة لنموذج "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، الذي استُخدم لتبرير نكبة الفلسطينيين.
علميًا وتاريخيًا، لا وجود لأي دليل يُثبت أن اليهود أسسوا مراكش أو حكموا فيها. المدينة أسسها المرابطون الأمازيغ في القرن الحادي عشر، وهي ثمرة حضارة إسلامية أفريقية-أندلسية. وجود اليهود فيها كان ضمن نسيج اجتماعي مشترك، لا ككيان مستقل أو كسلطة سياسية.
الأخطر من مضمون المقولة هو ما تخفيه من دلالات. إذ تندرج ضمن استراتيجية إسرائيلية أوسع تسعى إلى تصدير أزمتها الوجودية إلى الخارج.
ربط مصير اليهود بإسرائيل، ثم الإيحاء بأن انهيار هذا الكيان سيفرض عليهم "الهجرة" إلى دول أخرى، هو شكل من أشكال الابتزاز السياسي، ومحاولة لتطويع دول التطبيع كي تُحوَّل من شركاء إلى بدائل استراتيجية. في هذا الإطار، يصبح المغرب ليس حليفًا، بل مرشحًا لاحتضان ما يمكن تسميته بـ"الشتات البديل".لا
الحديث عن "حق العودة إلى مراكش" ليس مجرد تصريح عابر، بل بالون اختبار سياسي وأيديولوجي. الهدف هو جس نبض الرأي العام المغربي والعالمي إزاء فكرة التوسع الرمزي الإسرائيلي خارج فلسطين. كما يسعى إلى إثارة البلبلة داخل المغرب، عبر محاولة خلق خلط بين اليهودية المغربية والصهيونية، وبين المكون الثقافي اليهودي المغربي المشروع، والمشروع السياسي الاستيطاني الذي تمثله إسرائيل. هذا الخلط، إن ترسّخ، يهدد التوازن الديني والتاريخي الهش في المغرب، ويفتح الباب أمام توترات اجتماعية قد تستغلها أطراف معادية لاستقرار البلاد.
في المحصلة، فإن هذه المقولة لا يجب التعامل معها كزلة لسان، بل كمؤشر على تحوّل خطير في خطاب بعض دوائر صنع القرار الإسرائيلي، التي تسعى إلى فتح جبهات رمزية جديدة خارج فلسطين، وتوسيع ساحة الصراع لتشمل دولًا عربية أخرى، تحت غطاء الدين أو التاريخ أو المظلومية.
الرد المغربي يجب أن يكون حاسمًا وواضحًا، يستند إلى التاريخ والهوية والسيادة، ويرفض تزييف الحقائق أو توظيف المكوّن اليهودي المغربي لأجندات استعمارية.
من الضروري تعزيز الخطاب السياسي والثقافي المغربي الذي يفصل بوضوح بين الانتماء الديني اليهودي، وبين المشروع الصهيوني الاستعماري. كما يتعيّن فضح محاولات التزييف الأيديولوجي، وتحويل كل تصريح من هذا النوع إلى مناسبة لتجديد التأكيد على وحدة النسيج الوطني المغربي، وعلى أن يهود المغرب لم يكونوا يومًا جسدًا غريبًا أو رأس حربة لمشاريع استعمارية، بل كانوا دائمًا جزءًا من الذاكرة الجماعية المغربية، في بعدها المتسامح والمتنوع.
وفي مواجهة هذا النوع من الادعاءات، يجب مراقبة النشاط السياسي والثقافي الإسرائيلي في المغرب بدقة، خصوصًا ما يتعلق بالجماعات المتطرفة، والعمل على دعم الأصوات اليهودية المغربية الرافضة للصهيونية، من أجل تكريس خطاب وطني جامع يُجهض أي محاولة لاختراق رمزي أو استيطاني تحت ستار الدين أو الذاكرة.