تغطية: ربيعة برينة – لطيفة حدوش
في أجواء من الحضور النوعي والتفاعل الثقافي الواسع، اختتمت فعاليات البرنامج الثقافي المصاحب لمعرض الكتاب المستعمل بمدينة الدار البيضاء، الذي امتد على مدى أسبوعين، وسط مشاركة وازنة لمثقفين وأكاديميين وصحافيين ونقاد وطلبة وأدباء وفنانين وكتبيين.
تميّز يومَا الأربعاء والخميس 09 و10 يوليوز بتنظيم لقاءات نوعية، تُوّجت بتأكيد المشاركين على ضرورة استمرارية هذا الفضاء الثقافي والتربوي، وتجديد اللقاء في الدورة القادمة.
الأربعاء 09 يوليوز 2025: اللقاء الأول: توقيع وتقديم كتاب "الشعرية والإبداع المدرسي" لتلاميذ ثانوية ولّادة
استُهلّت فعاليات هذا اليوم الثقافي بلقاء تربوي احتفائي، خُصّص لتقديم وتوقيع كتاب جماعي بعنوان: "الشعرية والإبداع المدرسي"، أنجزه تلاميذ ثانوية ولّادة، تحت إشراف الأستاذ محمد الذهبي.
يُجسد هذا الكتاب ثمرة جهد بيداغوجي متكامل، ويضم نصوصًا إبداعية ونقدية كتبها التلاميذ ضمن ورشات تربوية تهدف إلى تعزيز التعبير الفني والذوق الأدبي داخل المؤسسة التعليمية.
أدار اللقاء محمد أوراري، الذي استهل الجلسة بكلمة افتتاحية أكد فيها أهمية هذه التجربة الإبداعية، مشيرًا إلى أن المشروع يمثل نموذجًا ملهمًا لربط الفعل التربوي بالإنتاج الأدبي. ووجه تحية تقدير لطاقم الأساتذة المؤطرين، معتبرًا إياهم شركاء في هذا الفعل الثقافي الجاد.
تناوب على تقديم مداخلتين نقديتين كل من محمد مورداشي وسفيان الركب، اللذين تطرقا إلى البعد التربوي والفني للنصوص المنشورة، مشيدين بتنوع الموضوعات التي تطرّق لها التلاميذ بين المسرح، القصة، التحليل الأدبي، والتاريخ التربوي. وتوقف المحاضران عند أسئلة محورية أثارها الكتاب، من قبيل:
ما الإبداع؟ما حدود العلاقة بين المسرح والتربية؟ كيف نغرس القيم الفنية والجمالية داخل المدرسة؟ ما دور الكتابة في بناء شخصية المتعلم؟ وكيف يمكن للمؤسسة أن تُعيد للتلميذ صوته ومكانته عبر الإبداع والتجريب؟
في مداخلة فيمة، أوضح محمد الذهبي خلفيات هذا المشروع التربوي، مشيرًا إلى أن الهدف لم يكن مجرد نشر إنتاجات تلاميذية، بل خلق فضاء نقدي حيّ يعيد إلى التلميذ حسّه الفني وطاقته التعبيرية.
وأكد أن ولادة الكتاب جاءت استجابة لحاجة ملحّة: حاجة المتعلم إلى منبر يعبر فيه عن ذاته ورؤيته للعالم.
تحدث الذهبي عن مراحل تطور المشروع، بدءًا من الفكرة الأولى، مرورًا بتجميع النصوص، وتجاوز التحديات اللوجستيكية والبيداغوجية، إلى غاية الطباعة والنشر. وشدّد على أن ما تحقق هو ورشة تربوية ممتدة، شارك فيها المتعلم والأستاذ والإدارة بروح جماعية ومهنية عالية.
كما عبّر عن تقديره لمجهودات الأستاذ سالمين، الذي اضطلع بدور تأطيري مهم، إلى جانب باقي الأساتذة الذين أبانوا عن التزام تربوي عميق، وإيمان صادق بقيمة الفن كوسيلة تعليمية.
اللقاء الثاني: التجربة السينمائية لهشام العسري
في جلسة مسائية غنية، خُصّص اللقاء الثاني للحديث عن التجربة السينمائية للمخرج والكاتب المغربي هشام العسري، أحد أبرز الأسماء في السينما المغربية المعاصرة.
أشرفت على تنشيط اللقاء الدكتورة سامية وردان، الفنانة التشكيلية والأستاذة بمركز التكوين، إلى جانب الممثل كرم المراني، مما أضفى على اللقاء مسحة فنية وأكاديمية ممتزجة.
بدأت الجلسة بعرض تعريفي حول مسار هشام العسري، الذي يُعرف بأسلوبه الإخراجي الفريد وأعماله الجريئة، من بينها: الكلاب، الضربة على الرأس، الجاهلية... أعمال لقيت إشادة نقدية واسعة داخل المغرب وخارجه.
في معرض حديثه، شدد العسري على أن مدينة الدار البيضاء تُشكّل محورًا مركزيًا في تجربته الإبداعية، معتبرًا إياها "شخصية فنية" وليست مجرد فضاء تصوير. وأكّد أن مشاريعه السينمائية تستلهم كثيرًا من تفاصيل المدينة وتناقضاتها، وهو ما ينعكس في البنية البصرية لأفلامه.
كما عبّر عن ولعه بالكتب المستعملة، قائلاً: «أجد فيها مداخل فكرية خام، وهي منبعي الأول للكتابة والتأمل». وتحدث بانفتاح عن رؤيته للسينما باعتبارها فعلًا اجتماعيًا ومقاومة ثقافية.
في مداخلة وجدانية، أشاد الممثل كرم المراني بشخصية العسري الفنية والإنسانية، واعتبره مخرجًا ملتزمًا وصادقًا، مشيرًا إلى أن العلاقة بينهما تتجاوز الإطار المهني، لتتجسد في صداقة مبنية على الثقة والاحترام.
واختتم اللقاء بنقاش مفتوح حول السينما والتربية والمجتمع، حيث لم يتوانَ هشام العسري في التعبير عن مواقفه إزاء قضايا كبرى، مثل التعليم، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي، ومسؤولية الفنان إزاء قضايا مجتمعه.
اللقاء الثالث: الجمعية المغربية للباحثين في الرحلة – تقديم إصدارات جديدة
في إطار رصين وحضور أكاديمي نوعي، نظّمت الجمعية المغربية للباحثين في الرحلة لقاءً خاصًا لتقديم ثلاث من منشوراتها الجديدة، في مجال أدب الرحلة والدراسات المرتبطة به.
أشرفت على تنسيق الجلسة الأستاذة ربيعة برينة، التي افتتحت بكلمة ترحيبية، استعرضت فيها أهمية هذه اللقاءات العلمية، معتبرة أن الجمعية تسهم بشكل فعال في إحياء التراث الرحلي المغربي، وتطوير آلياته البحثية والمنهجية.
تضمن اللقاء عرضًا لثلاثة مؤلفات: "الرحلة السلطانية إلى الربوع الفرنساوية" ل" محمد النظام" "رحلات في رسائل" ل" أحمد المكاوي"،"جولات في رحلات مغربية" ل" الزبير المكاوي".
قدّم المداخلة الأولى، حيث تطرق إلى مؤلف محمد النظام، مشيرًا إلى قيمته التوثيقية العالية، إذ يوثّق رحلة السلطان محمد بن يوسف (محمد الخامس) إلى فرنسا والمناطق الأوروبية خلال صيف 1945، بدعوة من الجنرال شارل ديغول، في سياق الاحتفالات بانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
استعرض المحاضر الجوانب المنهجية للكتاب، مركزًا على طابعه التوثيقي وتحليله للسياقات السياسية والتاريخية للرحلة، واعتبره مصدرًا نادرًا لفهم التحولات في العلاقات المغربية–الفرنسية خلال تلك الحقبة.
وجدير بالذكر أن معرض الكتاب المستعمل أسدل الستار عن فعالياته الثقافية يوم الخميس 10 يوليوز، وسط إشادة من جميع المشاركين بمستوى التنظيم، وجودة النقاشات، وأهمية العناوين المقدّمة.
وأجمعت فعاليات ثقافية ومدنية وإعلامية على أن هذا الفضاء لا يروّج للكتب فحسب، بل يُكرّس لثقافة التفكير والتعبير والانفتاح على قضايا الأدب والفن والمجتمع.
وشدد متتبعون على أن الأمل معقود على استمرارية هذه المبادرات في دورات قادمة، بما يعزّز مكانة الكتاب المستعمل كجسر للمعرفة، وكمحفز للقاءات الفكرية والتربوية التي تُعيد للثقافة معناها الحيوي والإنساني.



