رحل والد ناصر الزفزافي، الرجل الذي حمل قلبه مثقلا بالامل والألم في آن واحد، تاركا خلفه فراغا لا يسده شيء. رحيله لم يكن مجرد حدث شخصي، بل مأساة إنسانية تتجاوز حدود الاسرة لتلمس وجدان الوطن كله.
سنوات طويلة قضاها الرجل في انتظار بسيط، أمنية واحدة تتكرر كل صباح: أن يرى ابنه حرا، أن يدخل غرفته فيجده نائما بطمأنينة، أن يحتضنه ويغسل بذلك تعب الليالي الطويلة التي أرهقته.
لكنه رحل قبل أن تتحقق هذه الأمنية، تاركا وراءه وضعا اجتماعيا هشا وزوجة مريضة تصارع الألم والمرض، وأسرة معلقة بين خيبة الامس ورهبة الغد.
الأب كان رمز الانتظار الممزق، رمز الصبر البشري في وجه قسوة الغياب. لم يكن يسعى للفت الأنظار أو الانخراط في صراعات سياسية، كل ما أراده كان لحظة إنسانية صافية: لقاء مع ابنه قبل أن يغلق الموت أبوابه الى الأبد.
سنوات الانتظار الطويل أثقلت قلبه وانهكت جسده، لكنها لم تضعف رجاءه في رؤية ناصر حرا. هذا الانتظار الذي لا ينتهي كان بمثابة سجن آخر، سجن الروح الذي لم يعرف أبواب الحرية الا في خياله. رحيله ترك وراءه ألم هذا الانتظار الذي لم يكتمل، و ألم الزوجة الأم المريضة التي ما زالت تصارع جسدها وروحها معا.
الأم هي الاخرى في هذه المأساة، جسد ينهشه المرض وقلب مثقل بالحزن. هي التي تحملت مرضها، وعناء الزوج، وانتظار ناصر خلف القضبان، وهي التي ترى في كل يوم صورة غياب ابنها وهي تفتش عن اثره في كل زاوية من البيت. المرض الذي أصابها ليس مجرد ضعف جسدي، بل امتداد لآلامها النفسية، وهو ما يجعل كل لحظة انتظار آكثر ثقلا.
كل يوم تعيشه الأم في ألم صامت، تصارع من أجل البقاء ومن أجل ان تظل قوية لابنها رغم بعده، رغم قسوة الموقف، رغم رحيل رفيق عمرها الذي كان سندها في كل معركة.
رحيل الأب والمأساة التي حلت بالأسرة ليست انعكاسا فرديا، بل صورة مصغرة لواقع آلاف الأسر المغربية التي تنتظر ابنائها خلف القضبان. كل بيت من هذه البيوت يعيش على صدى خبر يمكن ان يغير حياتهم لحظة بلحظة، على أمل قد يتحقق أو يتبدد.
في بيت الزفزافي، أصبح الغياب حضورا دائما، والفراغ صدى صامتا لكل وجع محتوم. ناصر حاضر في تفاصيل البيت كأن حضوره يفرض نفسه رغم بعده، الغرفة التي كان يقيم فيها، المكان الذي كان يترك له والده دوما مساحة من الامل، كل ذلك أصبح أشبه برمز للغياب الحي، للوجود الذي لا يرى الا في القلب والخيال.
الانتظار الطويل الذي عاشه الأب يذكرنا بتاريخ المغرب في التعامل مع الازمات الانسانية والسياسية. الوطن عرف لحظات صعبة، واجه تحديات وجودية مع احتجاجات وثورات وصراعات، ومع ذلك وجد الطريق للغفران واعادة الدمج.
لقد غفر الوطن في الماضي لمن ارتكبوا أخطاء كبيرة، من حاربوه ورفعوا السلاح ضده، وتمكن المغرب من إعادة اللحمة الاجتماعية دون أن يفقد هيبته.
هذه القدرة على التوازن بين القانون والرحمة، بين الانضباط والصفح، هي ما يجعل التجربة المغربية فريدة، وهي ما يفرض النظر اليها اليوم في ضوء مأساة الأسرة.
الدولة لها شرعيتها، ولها الحق في تطبيق القانون والحفاظ على مؤسساتها، وهذا ما يجعلها قادرة على الصمود أمام أي تحد او احتجاج.
لكن الدولة ليست مجرد آلة قانونية جامدة، بل هي أيضا كيان إنساني قادر على التوازن بين تطبيق العدالة وممارسة الرحمة، بين الصرامة والصفح، بين فرض الحق والحفاظ على الروابط الانسانية.
إن الشرعية لا تتناقض مع الرحمة، بل يكتمل مفهوم الدولة حين توازن بين الحزم والانصاف، بين القانون والرحمة، بين الحق وفضيلة الصفح.
الغيب الطويل لناصر والزفزافي لا يلغيه الجانب الإنساني لما يحدث داخل الأسرة. فالأب والأم ليسا طرفا سياسيا، إنما طرفان انسانيان يعيشان مأساة الانتظار والخوف والفقد. الوطن، الذي يحافظ على قوانينه ويصون هيبته، قادر في الوقت نفسه على أن يفتح أبواب الرحمة، وأن يظهر أن القوة لا تكمن في القسوة، بل في القدرة على الجمع بين الحق والعدل والانسانية.
رحيل الأب يجب ان يكون دعوة لإعادة النظر، لتفعيل جانب الرحمة الذي يكمل القانون ويجعله إنسانيا. الموت لا ينتظر، والوجع الإنساني لا يحل بالتأجيل، والألم لأسر لا يخفف الا بلم الشمل.
هذا هو الوقت المناسب لتذكير الجميع أن الانسانية قبل كل شيء، وأن الدولة التي تعفو عن أبنائها لا تفقد قوتها بل تكسب شرعية اعمق، وتثبت قدرة الوطن على الجمع بين النظام والرحمة.
هذه المأساة ليست دعوة لتجاوز القانون أو الطعن في أحكام القضاء، بل هي تذكير بأن تطبيق القانون يمكن أن يصاحبه عمل انساني.
العالم يشهد أن الدول التي توازن بين العدالة والرحمة تنجح في الحفاظ على استقرارها وسمعتها.
الرحمة ليست ضعفا، بل هي جزء من القوة الوطنية، والصفح ليس تنازلا بل هو خيار شجاع يعكس نضج الدولة وقدرتها على النظر الى الانسان قبل اي شيء اخر.
الأب والأم عانيا كثيرا، وبيت الأسرة أصبح مسرحا للغياب والانتظار. كل يوم مضى عليهم كان اختبارا للصبر، وكل لحظة انتظار كانت صعبة، وكل خبر عن ناصر يحمل آمالا أو خيبات.
في هذا السياق، يصبح العفو او تكييف الاعتقال وفق العقوبات البديلة ليس فقط خيارا إنسانيا، بل خطوة لتعزيز الثقة في الدولة، لتعزيز مشاعر الانتماء الوطني، لإظهار ان القانون يمكن ان يكون عادلا وحنونا في الوقت نفسه.
إن هذه المأساة تعلمنا درسا مهما: الشرعية القانونية لا تتناقض مع الرحمة، ولا مع الصفح، ولا مع لم الشمل.
التاريخ المغربي مليء بمبادرات مصالحة أعادت للأسر أهلها، وطبقت العدل في الوقت ذاته، ومنحت الوطن شرعية إنسانية أعمق. رحيل والد الزدزفزافي يضعنا أمام امتحان إنساني ووطني: هل نستطيع أن نختار الرحمة ونوازنها مع القانون، أم نغفل عن البعد الانساني للألم؟
التسامح والعفو ليسا تنازلا، بل انتصار على الكراهية، وفتح أبواب الرجاء هو ما يجعل الوطن حيا وقادرا على تجاوز الجراح.
هذه اللحظة تتطلب قلبا كبيرا وعقلا واعيا، تتطلب أن نضع إنسانيتنا قبل أي خلاف أو حساب، وأن نجعل من الرحمة خيارا وطنيا وعمليا يترجم القيم التي نعتز بها جميعا.
لننظر الى هذه المأساة على أنها اختبار للضمير الجمعي، اختبار لقوة الدولة وقدرتها على الجمع بين الحق والرحمة، بين العدالة والانسانية، بين تنفيذ القانون وحفظ كرامة الأسر.
لن ننس الألم، ولن نغفل عن الخسارة، لكن يمكننا أن نختار ان نخفف من وقعها، أن نمنح فرصة للصفح، أن نعيد الحرية لبعض ممن طال انتظارهم، وان نعيد البسمة ولو متأخرة الى وجوه أمهات وآباء عاشوا سنوات من الخوف والقلق والانتظار.
في النهاية، رحيل والد ناصر الزفزافي يمثل رسالة صارخة: الغياب يترك أثرا عميقا، والألم الإنساني لا يقتصر على الميدان السياسي، بل في الزمن حقدت، يسكن عدة قلب... وهنا... نستحضر النقيب زيان ووحدته القاسية... وعلله التي قد تنهي حياته في السجن...
إن الدولة التي تعي هذا الواقع وتوازن بين القانون والرحمة، بين الشرعية والانسانية، هي الدولة القادرة على الصمود، الدولة التي يمكن ان يعتز بها كل مواطن.
هذه اللحظة الوطنية تدعونا جميعا لإعادة النظر في معنى الرحمة والصفح، الى تحويل الألم الى فرصة لإظهار الوجه الانساني للمؤسسات، وتعزيز الثقة بين الدولة والمواطنين، واعادة لم الشمل قبل فوات الاوان.
أحيانا ننتصر مرتين... حين نفتح زنزانة... ننتصر للتاريخ والقانون وللوطن... ولقيمنا وتجربتنا في ترميم الذاكرة والمضي قدما... وننهي مأساة تضعفنا ولو نحن الضحية... ولو بقرار مر صعب... فمن منا من لم يخف على وطنه زمن أحداث الريف، لكننا قادرون على المضي قدما بالصفح المبين.