قامت قيامة مغاربة وسائل التواصل الاجتماعي بسبب ملصق إشهاري يخص كأس العالم 2022 التي ستنظم في قطر.
اعتبر مغاربة السوشل ميديا أن الأبواب الموجودة بالملصق هي أبواب من التراث المغربي، وأن ما قام به المشرفون على الدعاية لمونديال قطر يعد سرقة رمزية لتراث مادي / رمزي مغربي، وأنه نوع من التضليل الذي قد يوحي لمن لا يعرف هذه الأبواب التراثية أن الأمر يتعلق بإرث معماري قطري/ خليجي.
لا يمكن سوى الإشادة بما يمكن اعتباره نوعا من اليقظة في الانتباه لأهمية تثمين الإرث الثقافي والحضاري والمعماري، والانتباه لأي محاولات للسطو عليه، ونسبه لجغرافيات أخرى.
غير أن سؤالا ينطرح: هل إذا كان الفعل صادرا عن منظمي تظاهرة رياضية في فرنسا أو أمريكا أو حتى إسرائيل، كان سيكون رد الفعل كذلك، أم سيعتبر بالعكس من ذلك اعترافا فرنسيا أو أمريكيا أو إسرائيليا بالقيمة الرمزية والجمالية للمعمار المغربي؟
ويمكن أن يقال الأمر نفسه، مثلا لو كانت التظاهرة الرياضية منظمة في الإمارات العربية المتحدة، ألم يكن رد الفعل سيكون امتنانا للإمارات ودليلا على عمق الصداقة المغربية الإماراتية؟
لقد رأينا ما يشبه هذا الأمر، فحين استنكر كثيرون تقليص مساحة المغرب في “لوغو” المؤتمر الذي نظمته السعودية حول البيئة، خرج البعض يدعو إلى عدم تضخيم الحدث، وأنه خطأ غير مقصود، وأننا لا يجب أن ننس أن السعودية تقف إلى جانب المغرب في معركة وحدته الترابية.
لماذا لم يقل نفس الكلام اليوم؟
فمثلا كان يمكن لرئيس الجامعة ولوزير الشباب اللذين قيلا إنهما راسلا الفيفا حول هذا السطو، أن يعتبرا الأمر التفاتة قطرية للتراث المغربي، ودعاية للسياحة المغربية، ما دامت قطر دافعت عن مغربية الصحراء ومقترح الحكم الذاتي على هامش الدورة العمومية للأمم المتحدة الأخيرة، خصوصا أن الملصق لم يتضمن أي إشارة إلى أن الأبواب هي من التراث القطري.
لا أدافع عن قطر، التي كنت ولا زلت أعتبرها جزء من لعبة المحاور الإقليمية التي لا تهمها إلا خدمة مصالحها، ولم أصدق يوما ادعاءات انحيازها لانتفاضات الشعوب من أجل الديموقراطية. بل فقط هو محاولة للنظر للأمور من زاوية التقاط أخرى، تقول إن بعض النوايا الحسنة التي تحركت دفاعا عن تراث مغربي قد اختلطت بنوايا أخرى تخدم أجندات دولة أخرى في صراع محاور لا يعنينا، ويفترض أن نكون حياديين فيه، لأنه ليس في القنافذ أملس كما يقال.
بعض من ساءهم التوظيف القطري للأبواب المغربية، قاموا بتعديل الملصق، واستبدال الأبواب بخيمة بدوية، وكأنهم يلمزون إلى أن الخليج لا حضارة له إلا حضارة الخيام.
وهنا كان السقوط المزدوج، وللأسف صادفت تدوينات لأشخاص محسوبين على النخبة المثقفة انتشت بهذا التعديل، دون أن تنتبه لبعض التفاصيل.
أولها أن الخيمة المعروضة في الملصق المعدل من طرف مغاربة، هي خيمة لا تختلف عن الخيام الأمازيغية، سواء الموجودة بالصحراء أو السهوب الشرقية او الأطلس، ( كما يوجد ماهو قريب منها في البادية التونسية والصحراء الليبية)، والتي يعتمد نسيجها على الحلفاء وشعر الماعز والصوف، وكذا السجاد وصينية الشاي، وهذه الخيمة التي قدمها بعضهم لاستصغار الإرث الصحراوي/ البدوي هي من معالم قدرة الرحل على التأقلم مع المتغيرات المناخية المتعددة، أكانت حرا أم مطرا غزيرا. وطبعا الرحل الأمازيغ جزء متميز من ذاكرة حياة الرحل.
لنعد الآن إلى تلك الأبواب، وهي أبواب نجدها في قصور السلاطين وبعض رجال الدولة الكبار، وفي بعض المساجد التي بناها السلاطين لتخليد أسمائهم في المقام الأول، وآوت بعضها أضرحتهم، هذه الأبواب ظهرت في المغرب خلال العصر الوسيط، وانتشرت أكثر في الحقبة المرينية وما بعدها، وهي متأثرة بالنمط المعماري الأندلسي، الذي بدوره تطور بتفاعل عناصر معمارية شامية (بعض الأسر الحاكمة المنحدرة من العائلات الأموية كانت تحن لقصورها التي تركتها في الشام بعد استيلاء العباسيين على الحكم ونقلهم مركز الخلافة من الشام نحو بغداد)، والمعمار القوطي الذي وجدوه في الأندلس، والمعمار الأمازيغي الذي بدوره كان يحمل بعض العناصر الرومانية (الجبص والجير الذي نجده في الأعمدة الموروثة عن الوجود الروماني بالمغرب، وهو ما يبين قدرة على امتصاص الوافد وتحويله ولو كان محتلا، وتلك ميزة العقل المبدع).
كان السلاطين المغاربة مأخوذين بمظاهر الأبهة التي كانت في القصور الأندلسية، ثم أضافوا إليها بحكم احتكاكهم مع الفضاء المتوسطي عناصر أخرى مثل المرمر والرخام الإيطاليين، ليتشكل نوع من المعمار المتفرد.
لكن هل كان هذا المعمار تطورا من داخل النسق المجتمعي والثقافي المغربي، كما تعبر عنه القصبات والواحات والجبال أم تطورا من داخل نسق العائلات الحاكمة التي كانت مأخوذة بمرجعيات جمالية أندلسية أساسا ؟
هل سنبقى اسيري انبهار بمرجعية تاريخ السلاطين عوض إعادة الاعتبار لتاريخ/ جنيالوجيا المجتمع وأنساقه الثقافية والقيمية (التي أبدعت نظام الخطارات في الري، تويزا، نظام الآراضي الجماعية، رمي “العار” لإيقاف الثأر والعنف، “الراكgد لحماية المرأة واسرتها،،،) ؟
إن استبدال الأبواب في الملصق القطري بالخيمة في لعبة الاستصغار، يعكس انبهارا بتاريخ السلاطين، واحتقارا لتاريخ المجتمع. رغم أنه التعبير الأصيل على الحضارة المغربية.
تلك الخيمة التي آوت الرحل الأمازيغ في صراعهم من أجل الحياة، تعكس تناغما فريدا مع الأرض في تقلباتها، وانسجاما مع الطبيعة .
إنها ليست عنوان تخلف، فمن تلك الخيام انطلقت أمة أمازيغية متفردة ، ثم اغتنت بتفاعلها مع لغات وثقافات ومجتمعات أخرى، في سيرورة مثاقفة إيجابية، لا تحتقر الأصيل، ولا تعادي الوافد لأنه أجنبي، إنها القدرة على التكيف مع الطبيعة والثقافة معا.
إنها نفسها التي منحت ذلك المواطن البسيط الذي إسمه المكي، والذي لولا فيديو السائحتين الفرنسيتين، لم نكن لننته إلى أن قيما حضارية كبرى نشأت في تلك الخيام مع البسطاء، وما زالت مستمرة في زمن طغيان ثقافة الأشياء التي تنتج العنف والعنصرية والتطرف والشوفينية الضيقة ضيق الصدور التي لا تنتبه لرحابة العالم.
لكن للأسف، كان علينا قبل أن نحتفي بالمكي الطيب، أن ننتبه أن المكي لا ينتمي لحضارة الأبواب العالية المزينة بماء الذهب، بل ينتمي لثقافة الخيمة التي وظفناها لاحتقار الآخر.
وللأسف كذلك، فإن المكي وأمثاله يستحقون حياة كريمة، لا أن يكونا جزء من “بوسطر” استشراقي في نهاية الأمر، وإن حسنت نوايا السائحتين. “بوسطر” يغذي الاستيهامات الغربية حول شرق متخيل، يستحق المغامرة لاكتشاف “سحره”، الذي يعمق عند الإنسان الغربي الإحساس بالتفوق الحضاري، التفوق الذي يجعله إما استعماريا، وإما صاحب شفقة هي طريق نحو التطهر/ الكاتارسيس.
وانس حكاية “سياحة” الفقر.