اختفاء الأرشيف الجماعي في المغرب: ذاكرة مثقوبة وصفقات في الظل

لم يعد اختفاء الملفات والوثائق الإدارية في الجماعات الترابية مجرد حادث عرضي أو سوء تنظيم، بل أصبح ظاهرة تثير الريبة في ظل استمرار فضائح الفساد المحلي بالمغرب.

في الجماعات والمقاطعات التابعة لجهتي الدار البيضاء-سطات ومراكش-آسفي، صدمت لجان تفتيش تابعة للمفتشية العامة للإدارة الترابية بوزارة الداخلية حين وجدت الأرشيف الجماعي فارغًا أو مبتورًا.

هذا الأرشيف الذي يفترض أن يحفظ ذاكرة الصفقات والرخص والجبايات، تحوّل فجأة إلى مساحة بيضاء تعرقل أي مراقبة جدية، وتفتح الباب أمام تأويل واحد: محاولات طمس أدلة تدبيرية مشبوهة.

المفتشون أمام مشهد إداري غامض

بحسب معطيات خاصة توصل بها التحقيق، فإن مكاتب الأرشيف بدت كأنها لم تعرف التنظيم منذ سنوات، فيما وصفت بعض الملفات بأنها “تبخرت”.

تبريرات غريبة قدمها المسؤولون المحليون للمفتشين: من “سرقة مجهولة” إلى “ضياع أثناء الترميم”... تبدو غريبة... وكان يجب أن تخضع لمساطر قانونية تحت إشراف الشرطة القضائية...بالتبليغ وفتح مسار البحث القضائي

لجان التفتيش اضطرت إلى تمديد مهامها أياما إضافية بحثًا عن وثائق محددة لم تظهر قط. أحد المفتشين – وفق مصدر مطلع – كتب في تقريره “ما وجدناه لا يدل على عبث إداري فقط، بل على عملية مقصودة لإخفاء معطيات مالية وعمرانية حيوية.”

ما الذي اختفى بالضبط؟

وفق التسريبات، توزعت الوثائق المختفية بين ملفات حساسة، منها رخص بناء استثنائية ومشاريع سكنية أقيمت في ظروف ملتبسة وصفقات تهيئة طرق ومرافق حضرية منحت لشركات بعينها لسنوات متتالية دون منافسة حقيقية وعقود كراء أسواق ومواقف سيارات ومنتزهات بثمن رمزي لمقربين من المنتخبين.

وفي هذا السياق اختفت أيضا سجلات جبايات، خاصة المتعلقة بالرسم على الأراضي غير المبنية، وسط مؤشرات على إعفاءات انتقائية، ومحاضر تسليم أشغال نهائية لمشاريع لم تخضع لمراقبة الجودة.

هذه الملفات ليست مجرد أوراق، بل هي دليل حياة المرفق الجماعي. اختفاؤها يعني إلغاء ذاكرة الإدارة وإرباك أي محاسبة مستقبلية.

الأرشيف.. الحارس الصامت للحقوق

وجدير بالذكر أن الأرشيف الجماعي ليس رفاهية، بل حق قانوني والتزام إداري، إذ يشكل حماية للحقوق العقارية والمالية للمواطنين والجماعات ومرجعية أساسية للمفتشيات والمجالس الجهوية للحسابات وركيزة للحكامة والشفافية التي تنص عليها الخطب الرسمية والدستور المغربي.

في المقابل، تبديد الأرشيف أو إخفاؤه يدخل قانونًا ضمن جرائم الإضرار بمصالح الدولة والتزوير الإداري، ويتيح للقضاء متابعة المسؤولين جنائيًا وتأديبيًا.

 ذاكرة جماعية مهددة ... لإخفاء ظلال الفساد

غياب الأرشيف أو تبديده يعني عمليًا تآكل ذاكرة الجماعة الترابية وتعطيل مسار البحث العلمي والتوثيق المحلي إفلات محتمل للمخالفات والصفقات المشبوهة من الرقابة.

أحد المستشارين الجماعيين، طلب عدم ذكر اسمه، قال في اتصال مع التحقيق:

“لقد نبهنا أكثر من مرة إلى أن اختفاء الأرشيف يهددنا جميعًا، لكنه بالنسبة للبعض فرصة لدفن الماضي.”

من المسؤول؟

المسؤولية موزعة بين رؤساء الجماعات والمقاطعات الذين يتحملون مسؤولية تدبير الأرشيف قانونًا وموظفين إداريين قد يكونون طرفًا في تسهيل أو تنفيذ عمليات الإخفاء ووزارة الداخلية التي يفترض أن تراقب بشكل استباقي لا بعدي.

غياب أي تحرك قضائي سريع يعزز ثقافة الإفلات من العقاب ويكرس منطق “الأرشيف المفقود” كأداة حماية للفاسدين.

 الحكامة تبدأ من الورق

المفارقة أن الحكومة ترفع شعارات الرقمنة والحكامة الجيدة، بينما تعيش جماعاته زمن الأرشيف الورقي المفقود.مشروع رقمنة الأرشيف المحلي ظل معلقًا في أغلب الجماعات، والمفتشيات الإدارية تعمل بأساليب تقليدية في غياب قاعدة بيانات رقمية ويظل المواطن  الضحية الكبرى حين يضيع ملفه بين أدراج فارغة، وتختفي العدالة وسط مزاعم الضياع والسرقة.

ويرى متتبعون للشأن المحلي أن الدولة مطالبة بالسرعة  القصوى نحو رقمنة شاملة للأرشيف وربطه بالمساءلة القضائية، وإلا ستظل الجماعات فضاءً لإعادة إنتاج الفساد كلما تبخر الأثر الورقي.

ذاكرة بلا أبواب

اختفاء الأرشيف ليس حادثًا تقنيًا، بل جريمة ضد الذاكرة الجماعية وضد مبدأ استمرارية المرفق العام، ولن يستقيم الإصلاح المحلي إلا بتدشين حماية ورقمنة الأرشيف الجماعي وربط كل عملية فقدان أو تبديد بالمسؤولية الجنائية مع تفعيل دور المجتمع المدني والإعلام الاستقصائي في التبليغ والمتابعة.

فبدون ذلك، سيظل المواطن يواجه إدارة بلا ذاكرة، ومجالس محلية تتلاعب بالماضي كي تتحكم في المستقبل.